بقلم - عبد المنعم سعيد
لم يمر أسبوع على شهر سبتمبر ١٩٨٢ حتى كنت فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية باحثًا عن مكتب أستقر فيه وعن العمل الذى سأقوم به. كان المكتب فى مدخل الدور السادس، ووجدت فيه د. جمال عبدالجواد، الذى تساءل معلقًا على اتساع الملابس التى أرتديها وعما إذا كانت هى «المودة» فى الولايات المتحدة. وقتها، أدركت المدى الذى وصلت إليه حالتى البدنية خلال الصيف الذى فيه الدفاع عن أطروحتى للدكتوراه. كان المجهود كبيرًا، وبعد مرور الدفاع بسلام وفيما بعد حصلت على جائزة «جيرالد ماريانوف» للامتياز الأكاديمى فى الدراسات العليا فى جامعة شمال إلينوى؛ كان المجهود الأعظم هو الإعداد للعودة إلى مصر. خمس سنوات من البقاء بعيدًا عن الوطن، وأوراق درجات الماجستير والدكتوراه من بحوث ومراجع، جعلت مسألة الرجوع عملية موجعة. وقتها، لم أكن أعرف عن «الكمبيوتر» إلا أنه نوع من الآلات الحاسبة، التى توقع مادتها وأرقامها على بطاقات، حيث تتحول إلى ثقوب تجرى فى آلة فحص فتحصل على نتيجة العلاقات الارتباطية بين عناصر فى التحليل. وعندما باتت لدىَّ النسخة الأخيرة من الرسالة نصحنى أصدقائى بأن تكون على جهاز «الكمبيوتر»، الذى لم يكن أكثر من آلة كاتبة متطورة؛ وقد كان، وحصلت على الرسالة بعد ذلك بشهور فى القاهرة على شكل «أسطوانات» تشبه مثيلتها للأغانى.
لم يكن فى القاهرة ولا فى مركزى العتيد ما يجعلنى غريبًا، فقد كانت العاصمة على ازدحامها الموجع ومواصلاتها التى لم تعرفها الأجيال الجديدة إلا عند مشاهدة أفلام قديمة؛ ولم يكن «التليفون» من مكونات الحياة العصرية. «القضية الفلسطينية» لم تعد هى «القضية»، وإنما ما إذا كان السلام مع إسرائيل مشروعًا أم لا؟. وربما لخص الموقف ساعتها ما أفصح به الدكتور سامى منصور، رحمه الله، رئيس وحدة العلاقات الدولية، التى كنت فيها قبل الرحيل من أنه كتب ١٢ مقالًا يدين فيها الغزو الإسرائيلى لبيروت وطرد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، وتكفى للإطاحة بنفس العدد من القيادات العربية التى خانت القضية. لم أتلقَّ منه ردًّا عندما تساءلت لماذا لم يكتب مقالات عشر أخرى كى تتم الإطاحة بما تبقى؟. فى نفس الوقت تحدث معى صديقى د. على الدين هلال للانضمام إلى «منتدى الفكر الديمقراطى»، الذى يضم مجموعة محترمة من المثقفين، وكان منهم الأستاذ سيد ياسين ود. سعد الدين إبراهيم.
كان فى ذلك إشارة إلى أن مصر أصبحت لديها اهتمامات أخرى مثل القضية السياسية والأخرى الاقتصادية؛ كان اغتيال الرئيس السادات قد ترك حالة مستدامة من الذهول الذى لا يريد أحد الحديث عنه بعد أن فرض الواقع اهتمامات أخرى لرئيس جديد أخرج المعارضين من السجن. كان إخراج الجامعة العربية من القاهرة وقطع العلاقات العربية مع «قلب العروبة النابض» نوعًا من العقاب للدولة العربية الكبرى لأنها قررت أن تحمى أجيالها القادمة من «الفيتو» على مستقبلهم الذى لو تعلق بالقضية لظلت أراضيها، كما هو حال الأراضى السورية، محتلة حتى الآن. الغريب أن كل ذلك حدث رغم أن مؤتمر القمة العربية الذى انعقد فى مدينة «فاس» المغربية خرج بمبادرة عربية تُبدى الاستعداد للسلام مع إسرائيل.
والغريب أكثر أنه رغم «القطيعة» بدأت آليات عديدة فى بناء الجسور بين المثقفين والأكاديميين العرب والمصريين من خلال ما تحول عن «منتدى الفكر الديمقراطى»، الذى انتهى دون أن يبدأ إلى «منتدى الفكر العربى»، ومقره عمان- الأردن. بعد ذلك ظهر فى الأفق مركز دراسات الوحدة العربية الذى نشأ فى بيروت عام ١٩٧٧ فيما أظن لكى يكون مكتبه فى القاهرة بمثابة مركز رئيسى دون إعلان. وكما حدث فى مصر حول قضية الحرب والسلام حدث بين المثقفين العرب الذين انطلقوا لتكوين جمعيات للعلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كل ذلك مع مركز الأهرام ومركز البحوث والدراسات السياسية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية خلق مجموعة نشطة تحاول أن تبحث فى أسرار تخلفنا عن العالم الذى بات سر الهزيمة، والخروج منه بداية النصر.
كان نصيبى من هذا الزخم الجديد هو أولًا السفر إلى الدول العربية التى لم أكن قد عرفتها من قبل، وثانيًا السفر إلى بلاد أخرى فى أوروبا وآسيا، وثالثًا إصدار ثلاثة كتب: «العرب ومستقبل النظام العالمى»، «العرب ودول الجوار الجغرافى»، و«المجتمع الأوروبى: التجربة الأوروبية التكامل والوحدة». وكان الإنتاج الأكاديمى أكثر غزارة من الكتب؛ بات عقد الثمانينيات معبرًا عن البحث عن طرق أخرى للخلاص للأوطان و«القضية».