بقلم: عبد المنعم سعيد
اكتملت الاستحقاقات الدستورية الواجبة لبدء فترة رئاسية جديدة مع قسم الرئيس السيسى أمام مجلس النواب، ومع افتتاح «العاصمة الإدارية الجديدة»، ورفع علم مصر إيذانا باستكمال مرحلة مجيدة من تاريخنا الوطنى، وبدء مرحلة أخرى تكتمل فيها «رؤية مصر ٢٠٣٠» خلال السنوات الست المقبلة، وتؤذن بعهد يوفر الاستمرارية والاستدامة، ويحقق الاستقرار اللازم للانتقال السلمى للسلطة. ومن الطبيعى فى هذه المرحلة أن يكون واضحا بجلاء حصاد المرحلة السابقة، بحلوها ومرها، وأن يكون لدينا الشجاعة للنظر فى المستقبل. لقد كانت الفترة الماضية التى تماثل عقدا كاملا من العمل حقق إنجازات كثيرة غيرت من العلاقة بين الجغرافيا المصرية وديموغرافيا الشعب المصرى غير مسبوقة فى التاريخ المصرى.
هذا الإنجاز يحتاج الكثير من الشرح لأنه من ناحية أشرت إليه فى هذا المقام ومقامات أخرى، ومن ناحية ثانية يبدو أنه كان عصيا على الفهم للجمهور العام، ومن ثم تقديره التقدير الذى يستحقه. وأذكر أنه فى ١٣ يونيو الماضى أرسل لى صديقى المهندس صلاح دياب حزمة من «الفيسبوكيات» التى تعلق على مقالاتى التى لفت نظرى فيها، بعيدا عن التجاوزات اللفظية، أن الوعى بهذه القضية فضلا عن فهمها ضعيف. والعجيب أن أول مشروعات مصر الناصرية التى ذاع صيتها وقبل مشروع سد أسوان العالى كان إنشاء مديرية التحرير فى الصحراء الغربية، وبعد فشل هذه وذهابها إلى دائرة النسيان تردد مشروع «الوادى الجديد» الذى ظل مشروعا لفترة طويلة حتى أتى ذكره مرة أخرى فى عصر آخر للرئيس مبارك وهو مشروع «توشكى». فيما بين هذه المشروعات كان هناك مشروع «الصالحية» الزراعى فى عهد الرئيس السادات، ومعه جرت بداية إنشاء مدن كبرى فى الصحراء مثل ٦ أكتوبر والعاشر من رمضان و١٥ مايو. وراء كل ذلك كانت محاولات لعبور العلاقة ما بين الجغرافيا - الصحراء المصرية الواسعة فى شرق البلاد وغربها - والديموغرافيا السكان الذين يتزاحمون فى نسبة صغيرة حول نهر النيل فى الوادى والدلتا لم تتعد ٣٪ عام ١٩٥٢، ولم تتجاوز ٧٪ عام ٢٠١٠.
الفكر المصرى فى العموم كان مدركا للخلل الجارى فى التوزيع السكانى على الجغرافيا المصرية، وسواء كان التفكير قادما من د. جمال حمدان أو من د. فاروق الباز، فإن حل مشكلة التوازن المختل تركز حول مشروعات ظلت أولا محدودة فى طموحاتها، وثانيا أنها رغم الطموح المحدود فقد بقى ما تحقق بلا رابط من بنية أساسية. كان الفكر الذائع يرى أن المصنع - أو المدينة - هو الذى يخلق الطريق. والحقيقة التى ثبتت هى أنه لا يمكن الاستغناء عن كليهما، ولعله من الجائز أن تقوم بتنمية «العوينات» فى أقصى الجنوب الغربى لمصر، لكن نتاج التنمية سوف يظل بعيدا عن مناطق الاستهلاك، وموانئ التصدير المحدودة. المدن الصناعية ظلت بعيدة عن مواصلات عامة كافية لانتقال العمال والسلع والمواد الخام. ما حدث خلال السنوات العشر الماضية هو عبور هذه الفجوة بحيث اتسعت مساحة المعمور المأهول المصرى إلى ١٥٪، واقتربت المسافة والسرعة بين الإنتاج والسوق، وباختصار حل الأزمة بين الديموغرافيا والجغرافيا وهى أزمة كان حلها جزءا مهما من التجارب التنموية، سواء تلك التى جرت فى آسيا أو أوروبا أو حتى الولايات المتحدة التى استفاد منها الرئيس أيزنهاور خلال فترة الحرب العالمية الثانية.
كان طبيعيا أن يكون لكل أمر بهذا الطموح ثمن. وبقدر ما كان هناك من بناء كانت هناك تحديات أولها الإرهاب الذى كلف مصر أعمارا وإعمارا، وثانيها جائحة الكورونا التى اختبرت قدراتنا الاقتصادية والصحية، وثالثها الظروف الدولية والإقليمية غير المواتية التى تمثلت فى الحرب الأوكرانية وحرب غزة الخامسة. المجمع الشامل لهذه التحديات شكل ضغطا كبيرا على القدرات المصرية وأدخلت الدولة المصرية فى أزمة التضخم وارتفاع الأسعار هددت الثقة فى القدرة المصرية على الاستمرار فى تحقيق معدلات النمو التى بلغت ٦.٦٪ عام ٢٠١٩، وكان مقدرا لها أن ترتفع إلى الآفاق العليا للنمو المتسارع خلال الفترة التالية. نقطة البداية فى التعامل مع الأزمة هى «تشغيل التغيير» الذى حدث خلال العقد الماضى فى البنية الأساسية وما تحقق فى البنية الإنتاجية وما أنجز فى القدرات التعليمية والتكنولوجية المصرية من خلال انفتاح اقتصادى يحرر السوق المصرية من القيود البيروقراطية ويدفعها إلى درجة أعلى من التنافسية الاقتصادية التى يشغلها قطاع خاص مصرى وأجنبى.
إن جزءا مهما من «تشغيل التغيير» يقوم على تحفيز الانتقال السكانى من وادى النيل الضيق إلى حيث توجد المدن الجديدة، والتعمير للمدن الحديثة على البحرين الأبيض والأحمر وسيناء. هذا الانتقال السكانى سوف يحقق حلما مصريا فى الانتشار السكانى من النهر إلى البحر يعطى الإقليم المصرى الكثير من الفاعلية الناجمة عن عمل الشباب المصرى الذى يمثل ٦٠٪ من السكان، ويواكبه رفع معدلات تشغيل النساء. فرغم ما جرى من رفع شأن النساء بتولى القيادة فى المناصب العامة والمهمة، فإن نسبة النساء من قوة العمل متدنية بحيث لا تتجاوز حاليا ١٧٪ من هذه القوة، وهو ما يضر بدخل الأسرة وقدرتها على المساهمة فى الناتج القومى الإجمالى. يضاف إلى ذلك أن جزءا مهما من تعبئة الموارد العامة، وزيادة الاستثمار فى مناطق مصر المختلفة يتطلب اهتماما خاصا خلال المرحلة المقبلة بالمحليات، وتحويلها من «الإدارة المحلية» التى تكتفى بمتابعة تنفيذ الخطة العامة للدولة، إلى - كما نص الدستور- «الحكم المحلى» الذى يعبئ الموارد المحلية ويعيد استثمارها فى محافظات مصر المختلفة. إن هذا التطور سوف يساعد فى تحقيق الانتشار السكانى عندما ينتقل المصريون من المحافظات المزدحمة إلى محافظات الخفة السكانية فى مرسى مطروح والوادى الجديد وجنوب سيناء وشمالها، والبحر الأحمر من السويس إلى حلايب وشلاتين.
رغم كل ما تحقق فإن الطريق إلى التقدم المصرى لايزال طويلا، لكنه ليس غامضا ولا مظلما فهو استكمال ما تحقق وإدراك لأهمية استنفار المبادرات الفردية، وقدرات القطاع الخاص من خلال سوق حرة قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية. ما حدث خلال السنوات العشر الماضية أفصح عن حجم الثروات التى تحتويها التربة والشواطئ المصرية، بقدر ما أبرز لنا عوار الاعتماد المبالغ فيه على قدرات الدولة التى كانت سريعة الإنجاز من ناحية، لكنها كانت خافتة فى توليد مصادر الدخل الأجنبى الكافية لاستمرار دوران عجلة التنمية بالسرعة والمعدلات المطلوبة. التجربة التركية قريبة وموحية، فرغم أن ديونها وصلت فى بعض الأوقات إلى ما يزيد على ٥٠٠ مليار دولار (والآن ٤١٢ مليارا) مقابل ١٦٧ مليارا فى مصر، فإن قدراتها التصديرية، ومصادرها السياحية، وعلاقتها الأوروبية والأطلنطية كانت كافية لكى تستعيد الليرة التركية التى انهار، فى بعض الأوقات، الكثير من قوتها. السنوات الست المقبلة فى التاريخ المصرى سوف تكون حاسمة فى قيام مصر كدولة قوية وعفية