بقلم: عبد المنعم سعيد
لا ينبغى أن يكون فى قائمة أولويات المصريين خلال هذه المرحلة من تاريخ مصر قدر «القضية المصرية»، التى تتجسد فى عملية لحاق الدولة المصرية - بشعبها وحكومتها وأرضها - بالعصر الذى نعيش فيه، حيث التقدم والرفعة يذهبان إلى بلدان تحقق ما حققته من خلال العمل والبناء. عشت العصر المصرى، الذى كانت فيه قضايا المنطقة كلها تهم المصريين بأكثر مما تكون عنايتهم بشؤونهم الخاصة. الوحدة المصرية السورية، بكل تكلفة الوحدة فيها والانفصال السورى، بعد ذلك لم تكن فى البداية على الأقل سعيًا مصريًّا، ولكنها فتحت الشهية على أن تحقيق «الوحدة العربية» ربما يكون الطريق السريع للتقدم الداخلى والمكانة العالمية. وكانت الشهية المفتوحة هذه هى التى دفعت مصر إلى حرب اليمن، التى كانت تكلفتها عالية، فى وقت كانت فيه مصر تنفذ أول خطة خمسية للتنمية الاقتصادية فى التاريخ، فكانت هى آخر الخطط الخمسية لأن ما جاء بعدها بذلك الاسم كان مجرد خطط إدارية لتوزيع الأعباء الاقتصادية بين العقود. «القضية الفلسطينية» كان لها وضع خاص منذ شاركت مصر فى حرب ١٩٤٨، رغم استمرار وجود الاحتلال الإنجليزى فى قاعدة قناة السويس خلف القوات الذاهبة إلى فلسطين. الحرب جرَت، رغم معارضة قوية فى مجلس الوزراء، وفى مجلس الشيوخ، وفى كليهما كانت قائمة الحجج طويلة بأن المشاركة فى الحرب سوف تكون كارثية. ما جرى كان قرار ملك، تزعزع ملكه، وأراد بالحرب أن ينقذه، وضغوطًا هائلة من جماعات راديكالية، وقع فى مقدمتها الإخوان المسلمون ومصر الفتاة، وحالة جارفة من حماس لا يعرف الرشد الداعى إلى تحقيق الاستقلال أولًا، الذى يطلب الإعداد للأمر عدته، وهو الذى لا يتم إلا من بلد متقدم وقادر. حدثت الهزيمة، وشاع أنها راجعة إلى الأسلحة الفاسدة، وثبت بعد ذلك أنه لم يكن قولًا صحيحًا. «القضية الفلسطينية» ظلت معنا منذ بدايتها، وحتى قبل أسابيع، عندما بدأت حرب غزة الخامسة، التى لا تزال معنا، حتى وقت كتابة هذا المقال، بالتزامن مع انعقاد القمم العربية لتقرير مصير الحرب والقضية ومسارها القادم بين استمرار الحرب والسعى نحو التسوية.
أيًّا ما سوف يحدث خلال الفترة القادمة، فإن «القضية المصرية» ينبغى لها أن تكون فى صدر اهتماماتنا، وتركيز قيادتنا، ووظيفة مؤسساتنا، وهم مثقفونا ومفكرونا. ولحسن الحظ أننا خلال السنوات العشر الماضية جرى نوع من اليقظة المصرية، استندت إلى وثيقة لإعمار مصر، تم الإعداد لها بين عامى ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، وتم تطويرها بعد ذلك إلى الشكل الذى يمكن مشاهدته الآن، والذى وضع مصر على أعتاب القرن الواحد والعشرين. والأعتاب، بالمناسبة، هى الخطوة التى تأتى على بوابة طريق أو مسار أو مهمة، والتى لا يكفل لها الدخول إلا بالكثير من الجهد والعرق. كان هذا الجهد والعرق هو الذى حقق هذه القفزة فى المعمور المصرى، ولكن هذا لا ينبغى له، ولا يجوز أن يكون نهاية الطريق، الذى لا يزال فى بدايته. قرنان من الزمان تقريبًا على بدايات مصر الحديثة، تقف فيها على أبواب التقدم، وبين الصفوف الأولى فى العالم، ويأتى لها التاريخ، محققًا لها مكانة لم تعرفها منذ العصور الفرعونية؛ فإذا بها تتراجع وتتخلف، بعد أن تفقد قوة الدفع والاندفاع. لحسن الحظ فى هذه المرحلة أننا تخلصنا من كل مستعمر، ولم تعد مصر محتلة، وبات مصيرنا فى يدنا، وخلال السنوات السبع المقبلة، أتمنى أن يكون الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيسًا للبلاد، الرجل الذى قام بالمهمة خلال السنوات السابقة، وبقيت له سنوات سبع لاستكمالها.
«القضية المصرية» سوف تتلخص فى السؤال التالى المتعلق باستكمال «رؤية مصر ٢٠٣٠»، ليس فقط بما فيها من مشروعات، وإنما أكثر من ذلك بما فيها من روح تجعل من الدولة المصرية كما ذكرت من قبل مرارًا وتكرارًا «دولة طبيعية» تتخلص من كل ما هو غير طبيعى وشاذ علق بها من تخلف عصور سابقة، وأفكار اشتراكية عفا عليها الزمان. ولحسن الحظ، أن كل ما سوف يلى من مهام يوجد بالفعل فى أوراق الحكم، وبات ضروريًّا أن يدخل إلى دائرة الواقع، وبنفس الطريقة، التى حققت تغيرات جوهرية فى الإقليم المصرى، ودفعت فى اتجاه تحقيق التوازن ما بين الديموغرافيا والجغرافيا فى مصر. المهمة الأولى، التى لا يمكن بعد ذلك انتظارها، هى إصلاح النظام الإدارى لمصر، وهى قضية بحثتها الحكومة بالفعل، وأنفقت فى سبيل وضع خطة لها الأموال، وآن لها الأوان أن تنتقل من الأوراق إلى دائرة الواقع. هى المهمة التى سوف تكفل التحول الرقمى الكامل فى البيروقراطية المصرية، وهى التى سوف تجعل وجود العاصمة الإدارية الجديدة منطقيًّا، كما أنها سوف تخلق يقظة كاملة فى المحليات، التى سرعان ما تتحمل مسؤولياتها، فيجرى التصالح بين المركزية واللامركزية فى النظام الإدارى المصرى.
المهمة الثانية، وربما كان يليق بها أن تكون الأولى، هى «التعويم» النهائى للعملة المصرية، فلا يليق بالعملة أو النظام الاقتصادى كله، ألا يكون لدينا نظام أبدى لتسعير الجنيه المصرى، وهو قوانين العرض والطلب، التى تعمل فى إطار سوق مفتوحة وصريحة. لقد كان المواطن المصرى يقظًا وعفيًّا ومستقرًّا عندما تم تعويم الجنيه، لأول مرة، فى ٣ نوفمبر ٢٠١٦، وكان مستعدًّا لتحمل كافة الأعباء، التى فتحت الأبواب لاقتصاد متوازن، يصحح عدم توازنه بنفسه، ويدفع فى اتجاه زيادة كبيرة فى تحويلات العاملين المصريين فى الخارج، والتى بلغت ٣٢ مليار دولار، وزيادة فى دخل السياحة والصادرات، ومع كل أزمة من الأزمات الداخلية (الإرهاب) أو الخارجية (الكورونا وحرب أوكرانيا)، يقوم بعمليات التصحيح اللازمة للعجز والخلل. لست اقتصاديًّا خبيرًا، ولكننى أعرف أن الدول التى تتقدم لا تغير من قواعد إدارة عملتها ساعة الأزمات، وإنما تتحول فى اتجاه تعزيز قاعدتها الإنتاجية وقدرتها على الصمود.
المهمة الثالثة أن الحديث الكثير عن فتح الاقتصاد المصرى- وتغيير العشرات أو المئات من القوانين المعوقة للاستثمار الخاص- سوف يكون محدود التأثير فى تشجيع القطاع الخاص المصرى والاستثمار الأجنبى، فبعد الإعلان عن وثيقة ملكية الدولة وما تلاها من تصريحات فى الحوار الاقتصادى، وفى إعلانات متتابعة، عن الترحيب بالدور الاستثمارى الخاص داخليًّا أو خارجيًّا، فإن التغيير سوف يكون ملحوظًا عندما يحدث بالفعل. الدولة فى الوقت الراهن لديها من الأصول والمشروعات المنتهية، التى تكفى لنهضة اقتصادية كبرى فى البلاد إذا ما تم تشغيلها من خلال طبقة رأسمالية جديدة تجذب الشباب للعمل وإدارة المشروعات، وحتى الإسهام من خلال الأوعية الاستثمارية فى تحويل المدن الجديدة وشواطئ البحيرات والمناطق الصناعية الجديدة إلى شركات مساهمة تكفل الملكية الشعبية بالأسهم والسندات للكثير من الأصول الحاضرة، أو تلك التى فى دور الإنشاء مثل القطارات السريعة. لقد تغيرت مصر كثيرًا، والآن آن الأوان لتغيير المصريين بإسهاماتهم فى إعمار مصر، ومَدّ أجنحتها العريقة إلى عالم متقدم.