بقلم: عبد المنعم سعيد
عاش جيلنا «القضية الفلسطينية» فى غدوها ورواحها طوال ثلاثة أرباع قرن، وفى أوقات زاد أمرها بأنها باتت «القضية المركزية»، حيث كان الموقع الجغرافى الفلسطينى مغريا على الخط الفاصل ما بين عرب غرب آسيا، وعرب شمال إفريقيا. وكان التاريخ خطا فاصلا آخر، فحتى عهد الغزوات الأوروبية الاستعمارية للدول العربية فى القرنين التاسع عشر والعشرين كانت فلسطين أيضا البوابة التى جاء منها الصليبيون والتتار والعثمانيون الذين استقرت سيادتهم أو خلافتهم على جماعة العرب لما يقرب من خمسة قرون. وقتها كانت فلسطين حقيقة موضوعية جغرافية، لكنها، سياسيا، ظلت جزءا من سوريا الكبرى، وأحيانا «الشرق الأدنى» للتمييز بينه وبين الشرق الأقصى. فقط بعد الحرب العالمية الأولى لمشروع «سايكس - بيكو» ولدت الجغرافيا السياسية للوحدة الفلسطينية تحت الانتداب البريطانى مع مزاحمة اليهود الذين نالوا «وعد بلفور» لإقامة «وطن قومى» فى فلسطين. باقى القصة بات معروفا ومسجلا فى رواية عربية فلسطينية وأخرى يهودية غربية تصارعتا بالسياسة والدبلوماسية والسلاح حتى وصلنا إلى حرب غزة الخامسة. ولا توجد هنا نية لسرد القصة من جديد، وإنما البحث فيما يسمى «اليوم التالى» وربما ذلك اليوم الأكثر «يوم ما بعد التالى»، لأن نتائج الحروب كثيرا ما دلفت إلى أوضاع مؤقتة لا تلبث أن تكون مستدامة تفتح أبوابا واسعة لحرب جديدة. ومرة أخرى هنا لا توجد نية للسير فى هذا المسار الصعب، ولأن ما نبحث عنه هنا أو بحكم الالتصاق الجغرافى أو المصير التاريخى هناك واجب عربى فى العموم، ولدى الدول العربية المتداخلة فى الصراع الجارى لكى نضع على عاتقنا تعاملا عربيا مع الحالة الفلسطينية مع هذا اليوم الذى سوف نجابهه، شاءت الإرادة أم أبت.
المسألة فى أبسط تحديد لها أننا حتى الآن عرفنا الحالة الفلسطينية من خلال مدى العدوان التى تقوم به إسرائيل ومن يساندها على الفلسطينيين، وهو أمر طبيعى يتماشى مع الأصول الاستعمارية للقصة التى تدفع فى اتجاه «استقلال» الدولة الفلسطينية. التعريف للقضية وفق هذا المنهج يصير إسرائيليا تارة وعودة إلى «الشرعية الدولية» تارة أخرى التى، وإن كانت تثبت حقوقا للفلسطينيين، فإنها وفقا للتجربة منذ ١٩٤٨ حتى الآن صارت مسيرة لانكماش الحق الفلسطينى بقدر المسافة ما بين قرار تقسيم فلسطين عام ١٩٤٧، و«اتفاق أوسلو» التى قادت إلى حروب غزة الخمسة التى أضافت انكماشا جغرافيا جديدا، شمل قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية. ما هو مفقود فى تعريف الحالة هو التعرض للسلطة الوطنية الفلسطينية التى من ناحية تعرضت لكل أشكال الضغوط الإسرائيلية، لكنها واجهت مباشرة الانقسام بين غزة والضفة الغربية، والمعروف بالانقسام بين حماس وفتح. لكن الحقيقة أكثر تعقيدا من ذلك، فهناك، بالإضافة إلى معسكرى غزة ورام الله، حزمة كبيرة من التنظيمات مثل حركة الجهاد الإسلامى، وهذه قادت حرب غزة الرابعة، ومعها حزب الشعب الفلسطينى والاتحاد الديمقراطى الفلسطينى وجبهة التحرير الفلسطينية. جميع هذه التنظيمات لها أجنحة عسكرية فاعلة على الساحات القتالية خلال العقدين الماضيين، خاصة فتح وحماس والجهاد الإسلامى والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فضلا عن لجان المقاومة الشعبية التى تقام وتنفض تبعا لحالات التوتر القائمة.
التعقيد الفلسطينى لهذه الحالة لا يماثل أشكال هذا التعقيد فى حركات التحرر الوطنى الأخرى فى العالم التى كانت كثيرا ما تنقسم هى الأخرى إلى جماعات معتدلة وأخرى متطرفة وثالثة أكثر تطرفا، والفارق بين هذه الفلسطينية وتلك العالمية أن هذه الأخيرة كانت كثيرا ما نجح فصيل فيها فى ابتلاع الفصائل الأخرى بالسياسة أو بالعنف أو بكليهما معا. أما الفلسطينية فإن الجغرافيا دخلت فى الانقسام بين غزة والضفة الغربية ومنذ عام ٢٠٠٧ عندما طردت قوات حماس قوات السلطة الوطنية الفلسطينية التى تسيطر عليها فتح، قادت عمليا لخلق وحدتين سياسيتين فلسطينيتين، وبات الأمر واقعا تحت مظلة حل الثلاث وحدات سياسية وليس دولتين. هذا الواقع استغلته إسرائيل بمهارة شديدة بدعم «نظام غزة» الحمساوى لتجسيد الانقسام الفلسطينى فى انشطار يمنع الدولة الفلسطينية من القيام، واستغلته إيران بدعم تنظيم الجهاد الإسلامى فى حرب غزة الرابعة، ودعم حماس فى الحرب الخامسة، مستعينة فى ذلك بالميليشيات التى دعمتها فى العراق وسوريا ولبنان واليمن، لكن أيا ما كان هذا التعقيد فإن العالم العربى وتنظيمه الجامعة العربية، التى عقدت قمتها الأسبوع الماضى، مطالبون بحل هذه الإشكالية الفلسطينية للتعامل مع ما هو مطروح من «حل الدولتين» التى سوف يكون عليها إنشاء دولة فلسطينية تعترف بها دول العالم، وأنه سوف يكون على هذه الدولة أن تتعامل مع إسرائيل.
خلال العقود الثلاثة الماضية منذ بدء تطبيق اتفاق أوسلو كان مطروحا ليس فقط «حل الدولتين» كما كان الاتفاق متوجها، وإنما برز أحيانا «حل الدولة الواحدة» الذى نجم عن الاندماج والتكامل الاقتصادى الذى جرى بين إسرائيل والسلطتين الفلسطينيتين فى غزة وقطاع غزة، حيث بات «الشيكل» الإسرائيلى هو العملة الموحدة، ومعها تكامل فى أسواق العمل، حيث بات عمل الفلسطينيين فى إسرائيل جزءا مهما من الاقتصاد الفلسطينى، والمال حيث باتت إسرائيل ليس فقط مصدرا للنقود، وإنما معها الحصول على الرسوم والجمارك الفلسطينية والإشراف على عمليات التصدير والاستيراد فى سوق اقتصادية واحدة، ورغم هذا الواقع فإن «حل الدولة الواحدة» لم يلق تأييدا لا من إسرائيل ولا من الفلسطينيين، ولا حتى عندما خرج من الحل تفريعة «كونفدرالية» تجمع بين حل الدولتين وحل الدولة الواحدة. وفى الوقت الراهن، ومع موقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية لحل الدولتين، فإن هذا الحل بات الأكثر قبولا لدى السلطة الوطنية الفلسطينية والدول العربية، وكذلك فعلت حماس مؤخرا طالما أنه بعد قيام الدولة الفلسطينية، فإنها تحت قيادتها لن تقوم بالاعتراف بالدولة الأخرى: إسرائيل.
الإشكالية الفلسطينية الكبرى لدى العالم العربى كله، والتى سوف تفرض نفسها على الساحة الدبلوماسية وقت أن تتوقف مدافع الحرب الجارية حاليا فى غزة، وبشكل ما الضفة الغربية أيضا، سوف تكون حول: من سوف يمثل الفلسطينيين؟.. المركز الفلسطينى للبحوث السياسية والمسحية - ومقره رام الله - يقطع بأن حماس سوف تفوز فى الانتخابات الفلسطينية بنسبة ٥٩٪، بينما لا تحصل السلطة الوطنية الحالية إلا على ١١٪. الواضح من هذه الاستطلاعات هو أنه لا تسودها فكرة السعى نحو الدولة الفلسطينية المستقلة بقدر ما هو مكافأة من يستطيع الانتقام وإيقاع الإيذاء بإسرائيل بعد الحرب البربرية الإجرامية التى قامت بها ضد الفلسطينيين قبل وبعد هجوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ الذى قامت به حماس وفصائل أخرى على غلاف غزة فى الداخل الإسرائيلى. هنا لا يوجد تصور لقدرة فلسطينية على القيام بعمل يركز على إقامة الدولة الفلسطينية ضمن مشروع لإقامة السلام والأمن فى المنطقة. هى مهمة صعبة تقع الآن على عاتق اللجنة العربية السداسية المنوط بها حل العقد والإشكاليات