بقلم: عبد المنعم سعيد
قبل أسبوع، أو أكثر قليلا، دخلت حرب غزة منعطفا جرى فيه تراجع الوجه الإقليمى للمواجهة بين إيران وإسرائيل على خير لكى تحل محله المواجهة المباشرة بين إسرائيل وحماس. التراجع جاء بعد أن وقف الطرفان على حافة الهاوية في مشهد حبس الأنفاس، مخافة أن تمتد المواجهة إلى أبعاد أكبر بكثير مما كان مقدرا، ولعبت الولايات المتحدة فيه دورا أساسيا برفض نشوب حرب، واستخدام كل الأدوات السياسية والدبلوماسية لكى لا يلى الوقوف على الحافة السقوط بعدها إلى ما لا أحد يقدر عليه. كان في الأمر تصعيد كبير بدأ بقصف جوى إسرائيلى لاجتماع في سوريا يحضره قيادة من الحرس الثورى الإيرانى، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه الواقعة حيث سبقتها سوابق فكان القرار الإيرانى بالرد. باقى القصة معروف، والمشهد جرت متابعته ومشاهدته عندما انطلقت المسيرات والصواريخ، وعندما ردت إسرائيل كانت المراقبة من نفس النوع. واشنطن التي لديها استراتيجية لإعادة صناعة الشرق الأوسط من جديد بذلت جهدا فائقا لكى ترضى النزوع للتصعيد يحدث بما يجعل طهران تطلق من الأسلحة ما لا يصيب وسائل الدفاع الإسرائيلية بالعمى، ومع الوصول لهدف رسالة القدرة أعلنت صراحة أن ذلك نهاية القصة. إسرائيل جعلت التصعيد والتبريد في مشهد واحد، كانت الغارة محدودة وكافية لكى لا تدفع للانتقام في الأعصاب الإيرانية، حتى إن طهران تجاهلت التعليق على الغارة الإسرائيلية. عاد الجميع إلى أصول الأزمة الإقليمية في غزة، حيث يجرى صراع إرادات تاريخية حول «القضية الفلسطينية» من ناحية و«المسألة الإسرائيلية» من ناحية أخرى. الأولى أشعل وجودها «طوفان الأقصى» والثانية ولدت من جديد في صباح ذلك اليوم، أو هكذا ظن أصحاب القضية والمسألة.
أصبح مشهد الحرب يتراوح ما بين الإقليمية التي تضم الدور الإيرانى الأصيل، ومسارح العمليات على الحدود الإسرائيلية مع الضفة الغربية وسوريا ولبنان والبحر الأحمر وتوابعها في مضيق باب المندب وبحر العرب والمحيط الهندى، والمحلية التي تشهد على المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية في ساحة غزة. ويتراوح بنفس القدر ما بين التصعيد الذي منذ 7 أكتوبر بات في يد إسرائيل التي وضعت خطة تصعيدية بدأت بشمال غزة ثم وسطها وأخيرا جنوبها. وفى كل مرحلة كانت مشاهد النكبة تتكرر، والضحايا قتلى وجرحى يتكاثرون، أما التدمير فأصبح صورة عالمية تذكر بكبريات مآسى الحرب التاريخية في حروب عالمية وإقليمية. ولأول مرة في تاريخ الصراع تولد نوبات من التهجير الإسرائيلى الذي تولد من غلاف غزة في 7 أكتوبر، ثم بعد ذلك في شمال إسرائيل نتيجة الحرب مع حزب الله اللبنانى. دخول الحوثيين اليمنيين إلى الحرب وفتح جبهة جديدة أثر سلبا في الملاحة والتجارة العالمية والاقتصاد الدولى حينما تصاعدت أسعار التأمين وتجهيز السفن في موانئ غرب إفريقيا وارتفع التضخم وزادت الأسعار. القصف الحوثى جذب إلى ساحة الصراع المسلح القوى الدولية بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، إلى جانب إيران التي تباشر معزوفات الحرب على جبهة واسعة. في مواجهة التصعيد تولد تيار التبريد الذي كان هدفه الأول هو وقف إطلاق النار الكامل بين المتحاربين، وعندما بدا ذلك مستحيلا كان الخيار التالى هو السعى نحو «هدن» توقف الحرب لفترات مؤقتة تسمح بالتفكير والتقاط الأنفاس، والأهم من ذلك إنقاذ سكان غزة، والسماح بعودة النازحين الإسرائيليين إلى مواطنهم الأصلية. في البحر الأحمر جاء التبريد في حدود تفاهمات غير مكتوبة، فحتى وقت كتابة هذا المقال قررت الأساطيل الدولية أنها متواجدة في البحر الأحمر وتوابعه فقط لكى «تحمى Protect» وتدافع Defend، وكان معنى ذلك أن يتم إسقاط القذائف المتجهة إلى هدف بحرى وليس تدمير أو تحييد مناطق انطلاقها. والنتيجة أن الحوثيين أعلنوا أنه إذا استمرت حرب غزة فإنهم سوف ينتقلون إلى المرحلة التالية من الحرب وهى قصف أهداف في البحر الأبيض المتوسط بالصواريخ.
هذه الجدلية بين التصعيد والتبريد، والإقليمية والمحلية، تلاقت عند أسوار رفح عندما بات جليا أنها سوف تشهد الفصل الأخير في حرب غزة الخامسة أو هكذا أوحت إسرائيل للعالم. وبعد أن مضت سبعة شهور على الحرب تقريبا توصلت إسرائيل، بعد أن مارست كل أنواع التصعيد الكارثى على سكان غزة قتلا وجرحا وتدميرا، ومن التهجير إلى النزوح، إلى طرح أنها، وقد قامت بتدمير غالبية كتائب حماس، فإنه تبقى أربع كتائب فقط في رفح تتضمن القيادات الحمساوية الرئيسية محمد الضيف ويحيى السنوار. غير معروف كيف حصلت إسرائيل على هذه الحسابات العسكرية، وليس معلوما ما إذا كانت إسرائيل قد تعلمت من الشهور السبعة الماضية والتى فشلت فيها التقديرات الواحد منها بعد الآخر من أول فشل التقدير بخصوص غزوة ٧ أكتوبر ثم فشل التقديرات للغزو البرى شمال غزة ثم وسطها وجنوبها. القصة الإسرائيلية باتت مركزة على التصعيد نحو رفح مع افتتاحية كبرى من القصف الجوى الذي يتبعه اختراق مناطق متتالية يجرى إخلاؤها من سكانها، على أن تكون البداية دعائية يخفق فيها العلم الإسرائيلى على الجانب الفلسطينى من معبر رفح في شهادة على عودة احتلالها الكامل لقطاع غزة. جرى ذلك، بينما وصلت مصر وقطر إلى صيغة لوقف إطلاق النار تتمثل في سلسلة من ثلاث فترات، كل منها أربعون يوما، وقيل 42 يوما، على أن تقدم حماس 33 من الأسرى في المرحلة الأولى وتقابلها إسرائيل ما بين 800 وألف سجين فلسطينى. وفى كل مرحلة يوجد جدول زمنى للتفاوض حول المرحلة التالية، على أن تنتهى كل المراحل، وقد تم تسليم الرهائن والأسرى لدى الطرفين، مع إعادة تموضع القوات الإسرائيلية في المرحلة الأولى بعيدا عن المناطق كثيفة السكان، مع فتح الأبواب لتقديم المعونات ووسائل الإنقاذ لمواطنى غزة.
اعتبارا من يوم الإثنين السادس من مايو الجارى وصلت عملية الوساطة عند نقطة حرجة، فقبل ذلك بيوم قامت حماس بقصف معبر كرم أبوسالم الذي تنفذ منه قوافل الإغاثة مما أدى إلى مقتل أربعة جنود إسرائيليين وإصابة آخرين. كان أمام حماس الاختيار ما بين إبقاء منفذ وحدات الإغاثة لسكان غزة أو أن تنتهز فرصة إيذاء حفنة من جنود الاحتلال. الحرب جوهرها إيذاء الآخر وكسر شوكته، ولكن الأذى لا يمس المتحاربين فقط، وإنما يمتد إلى صناع السلام. مصر الدولة التي نالها الضرر بما أثرت به الحرب في قطاع السياحة، وما سببته قصفات الحوثيين من هجرة شركات النقل البحرى بعيدا عن مرور تجارتها بين الشرق والغرب من خلال قناة السويس. وسط هذه السخونة لا تجد مصر ما تقوم به إلا ما تعودت على القيام به وهو جهود وقف إطلاق النار وتمرير المساعدات الإنسانية مع جهود إضافية لوضع»«القضية الفلسطينية» على مسار السلام والتسوية إذا كان ذلك ممكنا