بقلم: عبد المنعم سعيد
أحد القرارات المهمة التي صدرت عن مؤتمر القمة العربية الإسلامية التي انعقدت في الرياض بتاريخ ١١ نوفمبر ٢٠٢٣ كان السعى إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية في الجرائم ضد الإنسانية منذ بداية حرب غزة الخامسة في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. جميع القرارات الأخرى، مثل السعى نحو وقف فورى لإطلاق النار وتقديم المساعدات للشعب الفلسطينى في غزة، جرى فيها جهد أو آخر، حيث تم بالفعل السعى إلى قرارات في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لإصدار قرارات في هذا الشأن، جرى إخفاقها بالفيتو الأمريكى. وتم تشكيل لجنة من وزراء الخارجية، دارت على دول العالم الرئيسية لكى تشرح وتوضح القضية الفلسطينية والموقف العربى والإسلامى. وكذلك قامت الدول المشاركة في المؤتمر بتقديم قدر هائل من المساعدات للشعب الفلسطينى، لم يقلل منه إلا المماحكات الإسرائيلية في الدخول إلى القطاع. لجنة التحقيق وحدها هي التي فيما أعلم لم يرد لها ذكر، ولا متابعة، رغم أنها جزء مهم من المعركة السياسية والعسكرية الراهنة.
إسرائيل من ناحيتها قدمت للعالم- الأمريكى والأوروبى خاصة- «سردية» تبدأ بأن تاريخ الحرب الراهنة يبدأ من ٧ أكتوبر عندما أغارت قوات من تنظيم حماس الفلسطينى وحلفائه من تنظيمات أخرى، مكونة من بضعة آلاف على «غلاف غزة»، حيث قامت بقتل ١٢٠٠، (فى البداية كان هناك إصرار على أن الرقم ١٤٠٠) من الإسرائيليين، أغلبيتهم من المدنيين، الذين كان من بينهم نساء وأطفال. وتمضى الرواية الإسرائيلية في القول إنه جرَت في هذه الحالة فظائع لقتل أطفال أمام ذويهم، وقتل آباء وأمهات أمام أطفالهم؛ وكذلك جرَت حوادث اغتصاب للنساء، وسحل للرجال؛ ولا تنتهى السردية دون القول إن فظاعة ما حدث لم تحدث منذ «الهولوكوست» أو «المحرقة»، تشبهًا بالجرائم الفظيعة التي ارتكبها النازيون إزاء اليهود في الحرب العالمية الثانية.
بيان القمة العربية الإسلامية، وكذلك بيان مجموعة الدول التسع- دول مجلس التعاون الخليجى الست ومصر والأردن والمغرب- الذي صدر في أعقاب مؤتمر السلام، الذي انعقد في مصر، أكد إدانة كل الأعمال العنيفة، التي تجرى إزاء المدنيين سواء من هذا الطرف أم ذاك. ولكن ما حدث هو أن السردية الإسرائيلية دائمًا ما تجعل ذلك واقعًا من طرف واحد، وأن ما فعلته إسرائيل لم يكن أكثر من رد فعل لما فعلته حماس. ولكن الحقيقة هي أن التاريخ لم يبدأ من ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وإنما بدأ منذ قيام دولة إسرائيل، وحتى مذبحة «دير ياسين» بدأت قبلها، ومنذ ذلك التاريخ فإن إسرائيل مارست كل أنواع العنف المخالف للقانون الإنسانى، وكافة أشكال الحصار، من تجويع إلى منع المياه العذبة إلى الكهرباء وغير ذلك من وسائل القمع. وفى الحرب الحالية جرَت أكبر عملية اعتصار تجاه سكان غزة جميعًا، حتى ولو كان الهدف الرئيسى هو القضاء على حركة حماس. القضية التي باتت مسيطرة على التفكير إزاء حرب غزة الخامسة باتت أولًا نتيجة الغزوة البرية الإسرائيلية للقطاع، بعد أن قامت الغزوة الجوية بتهجير أكثر من مليون وتسعمائة نسمة فروا من شمال غزة إلى جنوبها، وقتل ٢٠ ألف نسمة، وأضعافهم من الجرحى، ومعهم دكّ آلاف من المبانى والمنشآت، ومنها مؤسسات صحية. ومع ذلك انتهز المستوطنون في الضفة الغربية الفرصة لقتل قرابة ٥٠٠ من الفلسطينيين خلال النصف الأول من العام، وطرد عشرات من ١٣ قرية في الضفة الغربية.
عمليًّا كانت مشاهد النكبة متكررة في غزة والضفة الغربية معًا، ولا توجد لدينا هنا نية لمتابعة ما ارتكبه الجانبان من فظائع، ولكن ما يهمنا هو أن إسرائيل لم تتوانَ أبدًا في استخدام سرديتها الخاصة في عواصم العالم المختلفة في تكنيك دعائى يجعل الحديث دائمًا مماثلًا لما جرى أثناء «الهولوكوست»، والوارد في العديد من الروايات والأفلام السينمائية. الحديث الإسرائيلى الدائم هو أنها عرضت على مَن يعنيها أمرهم صورًا وتسجيلات لما فعلته حماس خلال ٢٤ ساعة فقط من عملية ٧ أكتوبر. ولكن إسرائيل على الجانب الآخر اتبعت أسلوبًا يبدأ أولًا بالتشكيك في الأرقام الخاصة بضحايا غزة، وما ارتُكب فيها من جرائم، خاصة إزاء البالغين بالنزوح والترويع والتجويع، والأطفال بالحرمان من الحضّانات أو القتل المباشر، أو الدفن تحت الأنقاض. ما يهمنا في الأمر هو أن الأمر كله يحتاج لجنة تحقيق دولية للنظر فيما حدث بشكل محايد وموضوعى لأن في ذلك إقرارًا للعدالة واحترامًا للتاريخ. ولحسن الحظ أن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة قد سجلت أسماء الوفيات والجرحى؛ وهى التي استخدمتها المظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية في العالم للبرهنة على ما جرى.
السلوك الإسرائيلى إزاء إنشاء لجنة تحقيق دولية رافض دائمًا، وهى تجعل ذلك امتدادًا لرفضها كافة القرارات الدولية، التي تصدر عن الأمم المتحدة على أساس أن هناك تكتلًا دوليًّا من الدول العربية والإسلامية المعارضة لإسرائيل دائمًا يقف بصورة آلية مواقف مضادة لإسرائيل، ويشكل أغلبية دولية منحازة ومعادية لإسرائيل. الجديد في الأمر أنه عندما جرى ذلك في الدول الغربية اعتبرت ذلك نوعًا من «معاداة السامية» المتأصلة في هذه الدولة أو تلك. ولكن كل ذلك لا ينبغى له أن يقلل من الجهد الساعى لتكوين لجنة تحقيق دولية فيما جرى على إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية. وفى تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية جرَت «محاكمات نورمبرج» للقيادات النازية التي ارتكبت جرائم ضد الإنسانية شملت تلك التي كانت مضادة لليهود وعُرفت باسم «الهولوكوست». وفى التاريخ القريب كان التحقيق وتقديم المسهمين في الجرائم ضد الإنسانية إلى المحاكمة من الأمور التي أدت إلى إمكانيات التسوية السياسية للأزمة، ورأب ما فيها من صدع بتقديم التعويضات، أو بالقيام بالإعمار. حدث ذلك في التسعينيات من القرن الماضى عندما جرَت المحاكمات الخاصة بمذابح رواندا وبوروندى وسيراليون في إفريقيا، والمحاكمات الأخرى التي جرَت بعد تفكك الدولة اليوغسلافية عندما ارتكبت المذابح في «البوسنة والهرسك»؛ وبعد ذلك في «كوسوفو».
اليوم لا يمكن لإسرائيل أن تتخلص من نتائج أعمالها، فضلًا عن الاعتراف بحدوثها. والغريب في الأمر أن إسرائيل باتت تستخدم أسلوبًا مخادعًا عن الحديث مع الدول الغربية، التي بعد أن ساندت إسرائيل وقدمت لها العون، أخذت في مطالبة إسرائيل بتقليل درجات عنفها، وقبول عودة السلطة الوطنية الفلسطينية لحكم غزة. ما كان مدهشًا هو أن إسرائيل بدأت في معاندة الدول الغربية بأنها لم تفعل أكثر مما فعلته هذه الدول من مخالفات ضد الإنسانية عندما قامت بتدمير «درسدن» «وطوكيو» في نهايات الحرب العالمية الثانية؛ وللحق، فإن إسرائيل لم تُشِرْ إلى استخدام الولايات المتحدة للقنبلة الذرية في هيروشيما وناجازاكى، ربما لأن بعض أركان النخبة السياسية الإسرائيلية هدد أيضًا باستخدام الأسلحة النووية.