بقلم - عبد المنعم سعيد
قال المهاتما غاندى إنه لو طبقنا قاعدة العين بالعين والسن بالسن على البشر لصار العالم كله من العميان. وفى قول المناضل الليبى عمر المختار لرفاقه عندما طلبوا منه قتل الأسرى الإيطاليين لأنهم فعلوا ذلك بأسرانا الليبيين: «إنهم ليسوا أساتذتنا»!. مع بداية حرب غزة الخامسة، هبطت ذكرى «المحرقة» أو «الهولوكوست» مروعة ومفزعة مع التمثيل بأجساد المدنيين الإسرائيليين، وفى الحال فإن ذكرى «النكبة» أتت ثقيلة وحزينة مع بداية حرب هائلة. القتل الجماعى لعشرة آلاف نفس بشرية، ٤٠٪ منهم من الأطفال. لم يقبل أحد بالألم الذى ألَمَّ بالطرف الآخر، فما جرى لليهود لم يكن فى أى من أوقات التاريخ بيد فلسطينية، وما حدث للفلسطينيين من خروج تدَّعِى إسرائيل أنه كان نتيجة دعوة الدول العربية إليهم بالخروج، حتى بعد أن قرر المؤرخون الإسرائيليون «الجدد» أن الخروج جاء- جزئيًّا على الأقل- نتيجة المذابح التى قام بها اليهود، ابتداء من دير ياسين. لم يكن فى أى من ذلك ما يخفف ما جرى فى الأيام الأولى للقتال من قِبَل حماس أو مَن اختفوا فى عباءتها، ولا ما فعلته إسرائيل بغزة كلها، وفى المقدمة منهم الأطفال والنساء فى كل الأيام التالية. فى كل الأحوال كان التاريخ ثقيلًا، وكانت القائمة الفلسطينية طويلة منذ عام 1948 حتى الآن، أما القائمة اليهودية فبدأت دومًا من الخروج من مصر والغزو البابلى. كان التاريخ يُحمِّل اللحظة أكثر مما يمكن تحمله، وفيه لم تكن هناك مغفرة لكيف ضاعت الفرصة منذ حدث أول اعتراف بين الشعبين الفلسطينى والإسرائيلى منذ توقيع اتفاق أوسلو وقيام أول سلطة فلسطينية فى التاريخ على الأرض الفلسطينية!.
النتيجة هى إضافة أخرى إلى تاريخ من الألم يُتْلَى فى مناسبات تالية من العنف تبريرًا ودعوة إلى التعاطف مع مَن وقع عليه إطلاق النار. الأمر ليس جديدًا على البشرية، فهناك صراعات ظل فيها المخزون التاريخى دافعًا لوضع الإصبع على الزناد، ثم من بعده إطلاق الذخيرة. أتاحت لى الظروف أن أكون فى جامعة للدراسات العليا، (جامعة شمال إلينوى بالولايات المتحدة)، وفى الجامعة كان يوجد واحد من أهم المراكز للدراسات الآسيوية فى الولايات المتحدة. كان من الطبيعى الاختلاط بطلبة آسيا، ومن بينهم كان ذلك العداء بين مَن جاءوا من الهند والآخرين من باكستان. الهنود كانوا يعتبرون أنفسهم قوة عظمى قضم منها الغرب الاستعمارى جزءًا حيويًّا، تمثل فى باكستان. كان قرار تقسيم الهند إلى دولتين لا يقل فى ألمه لدى الهنود عن قرار تقسيم فلسطين لدى العرب. حينما قُدرت لى زيارة باكستان فقد بدَت لى الأمة الباكستانية وكأنها خلاصة البشر الذين يكرهون الهند. كانت الذاكرة التاريخية مفعمة بالكثير من الذكريات المريرة بالمذابح والدماء والتآمر، التى تحضر دائمًا ساعة النزاع حول كشمير أو أى قضية أخرى. بشكل ما تنازع البلدان بالحرب أو بالكراهية، ولكن الصين كانت هى التى انتصرت فى النهاية، ومن المرجح الآن أن اللحاق بها وتقدمها سوف يكون قصة القرن الواحد والعشرين.
لم يختلف الأمر أبدًا فى الشرق الأوسط حينما تنازع العرب والإسرائيليون حول إرث استعمارى كان هو الذى سحق اليهود فى ناحية، واستعمر العرب فى ناحية أخرى. والمثقفون المصريون الأوائل فى القرن العشرين اعتبروا الطرفين جزءًا من قضية واحدة، فذهب أحمد لطفى السيد وطه حسين إلى الجامعة العبرية فى القدس. اليهود المصريون كانت لهم يد فى النهضة المصرية والسعى نحو الاستقلال بما قدموه من أعمال فى البنوك والنظام الاقتصادى والفنون الحديثة بأشكالها المختلفة. وعندما جرى الصدام مع حرب ١٩٤٨ بدأ تاريخ آخر من الكراهية كان يشتعل من آونة إلى أخرى، بينما العالم يسير فى مسار آخر يزدهر فيه من الإقليم مَن لم يشترك فى الصراع. حرب غزة الخامسة تمثل أزمة شاملة لإقليم يحاول الخروج من تاريخ واسع للأزمات التى تشده دائمًا إلى الخلف. وفى اللغة الصينية، فإن مفهوم «الأزمة» يتضمن معنيين: الخطر والفرصة؛ ويأتى الخطر من «المفاجأة»، التى هى أحد مكوناتها التى تأتى على غير موعد وقبل إجراء الاستعداد اللازم واتخاذ الاحتياطات الواجبة. أما الفرصة فتُتاح من خلال حالة انكشاف جميع الأطراف المشاركة، وخاصة بعد أن تتحول «الأزمة» إلى حرب مفتوحة مُعرَّضة لنوبات من التصعيد والانتشار؛ وفى العادة فإن ذلك يفتح أبوابًا للتسوية تتيح فرصًا للدولة لكى تعزز مصالحها القومية. وحتى نشوب الحرب الحالية، كان الإقليم العربى يفيق من أزمة الربيع فى طريق الإصلاح؛ فهل يمكن للعقلاء الاستمرار فيه؟!.