تأريخ الفترة منذ عهد الفوضى والثورات يشهد على ثلاث مراحل، الأولى كان ما جرى تسميته تثبيت أركان الدولة وفيها جرت المواجهة مع الإخوان والإرهاب ووضع الدستور وطرح رؤية مصر 2030.
والثانية كانت بقدر من التوازى مع المرحلة الأولى كان بناء البنية الأساسية المصرية التى تربط بين أرجاء الدولة بالمواصلات والاتصالات وشبكات الكهرباء والغاز ومنافذ الإنتاج من موانئ ومطارات. بعد أن كان المعمور المصرى لا يزيد على 7٪ من مساحة مصر الكلية؛ أصبح الآن يقترب من ضعف ذلك أو أكثر؛ وهو ما يعنى أن هناك 85٪ على الأقل من مساحة مصر لم يمسسها بشر لا بالعيش ولا بالإنتاج ولا بإقامة مجتمعات جديدة.
المرحلتان الأولى والثانية كان فيهما للقوات المسلحة دور كبير لأنهما من ناحية اشتملتا على اشتباكات أمنية مع العناصر المعادية من الإرهابيين، ولأنه كان من الصعب فى جزء كبير منهما استيعاب استثمارات داخلية وخارجية خاصة ما تعلق بها من مشروعات عملاقة اخترقت صحراوات مصر وسواحلها مثل توشكى والدلتا الجديدة والطرق والكبارى. كانت هناك حاجة كبيرة للانضباط الكبير فى إنشاء قناة السويس الجديدة وإنجاز مشروعات كبرى فى المدن مع تعزيز قدرات القوات المسلحة.
الآن فإننا على أبواب المرحلة الثالثة التى يمكن تسميتها مرحلة تحرير الاقتصاد المصرى بمعنى أولًا استغلال ما حدث بتشغيله وتحويله ليس فقط من مسهل لحياة البشر وإنما لإتاحة العمل والإنتاج الذى يستكمل عملية التمويل اللازمة لاستمرار المسيرة التنموية.
ليس سرًّا على أحد أن تكلفة المرحلتين السابقتين جاءت من خلال الاقتراض الداخلى والخارجى. ولم يكن هناك بأس فى هذا لأنه كان المسار الذى اتبعته الدول البازغة لكى تعوض عجز التمويل لديها خلال المرحلة الانتقالية بين الدولة النامية الفقيرة والدولة البازغة التى تشارك فى الاقتصاد العالمى، ومن خلاله تستكمل دائرة الاستثمارات مرة أخرى من خلال القطاع الخاص فى الداخل والاستثمار الأجنبى من الخارج.
الملاحظ هذه الأيام، ومنذ الإعلان عن صفقة «رأس الحكمة» أن هناك حالة من اليقظة الاستثمارية لدى الحكومة ظهرت فى كم كبير من الزيارات المتبادلة بين المسؤولين عن الاستثمار فى الدول العربية الشقيقة كانت أولاها مع دولة الإمارات العربية المتحدة؛ وثانيتها التى تجرى الآن مع المملكة العربية السعودية الشقيقة، وكلتاهما تتصدران قائمة المستثمرين فى مصر.
وأذكر قبل سنوات قليلة أن وفدًا ممثلًا لمراكز الدراسات الاستراتيجية زار المملكة لتبادل الرأى حول القضايا المشتركة بين البلدين؛ وحينما حلت الجلسة الاقتصادية فاجأنى أحد رجال الأعمال السعوديين وبأدب بالغ قائلًا إن القرآن الكريم جاء فيه «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ»؛ ولكنه لم يحدد كيف يخرجون منها. نبهت الرسالة إلى أن هناك مشكلة حقيقية متمثلة فى عقبات بيروقراطية وإجرائية ومالية تجعل الاستثمار فى مصر ليس سهلًا
ورغم أنه جرى التنبيه إلى هذه العقبات فإنه لم يكن متصورًا حجمها إلا مؤخرًا عندما زار دولة رئيس الوزراء د. مصطفى مدبولى السعودية ليجتمع بالمسؤولين فيها وهناك ذكر وجود 90 عقبة كانت تواجه الاستثمارات السعودية فى مصر وأنه جرى التخلص من غالبيتها وما تبقى هو 14 عقبة. معالى وزير التجارة المصرى حسن الخطيب ذكر بدوره أن 75٪ من العقبات أمام التجارة بين البلدين تم التخلص منها، و25٪ جارٍ معالجتها.
الطرفان المصرى والسعودى يشيران إلى جودة العلاقات الاقتصادية بين البلدين فبلغ حجم التبادل التجارى 124 مليارًا (أظنها ريالًا سعوديًا) بينهما؛ وأن عدد الرخص الممنوحة للمستثمرين المصريين فى السعودية بلغ 5767؛ وهو ما يعنى أن الاستثمارات موجودة من الطرفين.
ولكن المعلومات عن العقبات مزعجة للغاية، فإذا كان ذلك هو الحال مع السعودية فكيف يكون الحال مع بقية دول العالم؟!؛ والأخطر من الذى يتحمل مسؤولية السنوات السابقة وعائدها على الاقتصاد المصرى؟ ولكن الأخبار الطيبة هى أن اليقظة قد ألمّت مؤخرًا بالجهاز الإدارى المصرى الذى يحتاج بقوة أن تشمله نوبة من الصحيان الاستثمارى الذى يفتح الأبواب للاستثمار والتشغيل ونقل التكنولوجيا العالمية إلى آخر مكونات التنمية والتقدم.
هناك الكثير مما يؤسف عليه فى هذه المعلومات عندما يؤخذ فى الاعتبار تكلفة الفرصة البديلة فيما كان لدينا من «عقبات»، بعضها ظاهر، وبعضها الآخر خفى يسير فى دورة الجهاز الإدارى للدولة الذى تأخرنا كثيرًا فى إصلاحه إصلاحًا جذريًا رغم أن المشروع متواجد والقانون جاهز، وكلاهما ينتظر التطبيق. يقال كثيرًا أن تأتى متأخرًا خير من ألا تأتى على الإطلاق هو قول حكيم، وعزاؤنا هو أنه فى أحوال كثيرة كنا سابقين للموعد.