بقلم:فاروق جويدة
لم يكن عميد الأدب العربى طه حسين مجرد كاتب سطّر بعض الأوراق ومضى، ولكنه كان مشروعًا ثقافيًّا حضاريًّا إصلاحيًّا.. إن هذا الرجل ، الذى فقد بصره وهو طفل صغير وواجه الظروف متحديًا ، كانت حياته كلها معارك وتحديات خاض فيها قضايا كثيرة ضد ثوابت عديدة فى الفكر والتقدم والسلوك.
ــــــ لم يكن طه حسين كاتبًا عاديًّا؛ فمنذ استغنى عن البصر بالبصيرة فى مشروع حياة تجاوز حدود الإنسان، واجه قضايا مجتمع استسلم للجهل والتبعية.. كثير من الناس اختلفوا حول طه حسين: المشروع، والدور، والرسالة.. فقد ظهر مشاغبًا متحديًا لا يستسلم لثوابت كثيرة فى الفكر والسلوك، ورغم ذلك فقد تعددت مشروعاته بين قضايا الفكر وثوابته وقضايا الإصلاح وتحدياتها.. وقد خاض كل هذه المعارك بالصبر والبصيرة.. كانت معركته الأولى حين تحدى ثوابت كثيرة ضد أكبر قلعة دينية فى العالم الإسلامي، وهى الأزهر الشريف.. ورغم أنه أحد أبناء هذه القلعة، فإنه تمرد عليها.. وكانت من أولى معاركه الفكرية حين بدأ بنفسه.. وسرعان ما حلق طه حسين وبدأ أهم جولاته فى بعثة ثقافية علمية إلى فرنسا.
ــــــ كانت نقطة التحول فى حياته فى باريس، حيث عادت له بصيرته وبدأ يرى الحياة من خلال أفق أوسع إنسانيًا وثقافيًا وحضاريًا .. لم تكن باريس فتحًا جديدًا فى فكر ورؤى طه حسين، ولكنها أكبر حظوظ حياته حين التقى رفيقة رحلته ومشواره، سوزان، الفتاة الفرنسية التى أحبته ورأى العالم من خلالها.. كانت سوزان وراء كل مشروعات طه حسين، الشاب القادم من سحابات ظلام الشرق لتتولى مسئولية بناء إنسان جديد.. فى باريس، رأى طه حسين عالمًا جديدًا أعاد صياغة فكره وثوابته وسلوكياته، ووجد امرأة أحبته وراهنت عليه عن يقين بأنه سيكون شيئًا عظيمًا.. ولا أحد يعرف هل كان لقاء طه حسين مع سوزان شيئًا قدريًا أم كان غير ذلك ، ولكن أخطر ما فى هذا اللقاء أنه أقام مشروعًا ضخمًا يسمى طه حسين.
ــــــ بدأ عميد الأدب العربى مشروعه، ولا أقول مشواره، لأنه تجاوز حدود الفرد.. كان طه حسين قد شيد قلعته الحصينة «الأيام»، وهى أعظم ما كتب.. وسرعان ما صدم الوسط الثقافى حين ألقى فى وجهه قفاز مغامرته الأشهر «الشعر الجاهلي»، ووصل إلى التشكيك فى ثوابت كثيرة فى الشعر ، وإن جنحت لمناطق أخرى.. وأمام ثورة من الغضب، تراجع طه حسين واعتذر.. كانت قراءات طه حسين فى الثقافة الغربية قد أيقظت فيه روح الرفض والتمرد، خاصة عندما اقترب من مناطق الشك والحيرة.. وكانت أفكار بعض الفلاسفة مثل ديكارت وأشعار فيكتور هوجو قد حركت شجون طه حسين وشجعت روح التمرد فى الشاب القادم من أعماق الشرق.
ــــــ للإنصاف، كان المجتمع المصرى يشهد تحولات كبيرة؛ كانت هناك ثورة ضد الاحتلال وزعيم مثل سعد زغلول التفّ المصريون حوله.. وكانت هناك نجوم كثيرة تحلق فى سماء مصر فى الفن والفكر والإبداع.. وكانت جامعة القاهرة قد أيقظت الواقع الفكرى والثقافي.. فى ظل هذا المناخ المبدع، انطلق طه حسين فى دعوته الإصلاحية حين أعلن مشروعه أن التعليم حق من حقوق الإنسان كالماء والهواء.. ولم يكن غريبًا أن تستعين الحكومات المختلفة بفكر ومشروع طه حسين فى الاهتمام بالتعليم على أساس أنه البناء الحقيقى للإنسان.. تنقل طه حسين ما بين كلية الآداب وجامعة القاهرة ووزارة التعليم ومجلس الوزراء، ينشر دعوته: التعليم حق، وأنه لا حرية مع الجهل.
ــــــ كان مشروع طه حسين الإصلاحى يقوم على التعليم ، وهو الذى وضع الأساس لمجانية التعليم.. من أهم إنجازاته الإصلاحية، ولم يكتف طه حسين بما أنجز.. وسرعان ما خرج المتمرد فيه ليصدر وثيقة تاريخية، «مستقبل الثقافة فى مصر»، لكى يؤكد أن مصر ينبغى أن تتجه شمالًا وليس جنوبًا.. اتهم كثيرون يومها طه حسين بأنه يكره الثقافة العربية ويتبرأ منها.. وانبرت أقلام كثيرة فى مصر والعالم العربى تهاجم طه حسين.. ورغم موجات الهجوم على عميد الأدب العربي، فإنه صمد على موقفه ، بل إنه ترك آلاف الأنصار والمريدين الذين اتفقوا معه فى كل ما أفتى به فى قضايا الفكر والثقافة والإصلاح.
مازال منهج طه حسين الإصلاحى محل تقدير، خاصة قضية التعليم ، وهى حق من حقوق الإنسان.. واتفقوا معه أيضًا على أن العقل العربى ما زال يسبح فى متاهات الماضى وعليه أن يواكب العصر وينهى زمن المسلمات.
ــــــ لا أدرى هل أخذ طه حسين مكانته كاتبًا أم مصلحًا أم إنسانًا تحدى الواقع والظروف؟ البعض يرى أن طه حسين ظاهرة إصلاحية أكثر منه حالة إبداعية.. وإن كنت أرى أن الأدوار لا تنفصل.. طه حسين، الشاب الذى لا يرى، قد تجاوز حدود البصر ليكون صاحب بصيرة.. ورغم الاختلاف حول طه حسين المصلح والمبدع والمتمرد، فإنه ترك مجموعة خالدة فى أكثر من مجال.. إن «الأيام» شهادة ميلاد عبقرية بجانب كتاباته النقدية، حتى وإن أثارت غضب البعض، كانت ثورة على ثوابت كثيرة.. مارس طه حسين دور الجراح وهو يكتب فى القضايا الإسلامية رموزًا وأحداثًا.. وحين جلس على شاطئ الرواية وكتب «دعاء الكروان»، «المعذبون فى الأرض»، «الحب الضائع»، «شجرة البؤس»، «وأديب.. كانت إسلاميات طه حسين إضافة للفكر المستنير حتى وإن اختلف البعض عليها لأن الرجل كان واضحا فى مواقفه وقناعاته ولم يخف شيئا منها.
ــــــ بقدر ما اختلف الناس على بعض مواقف طه حسين الفكرية والنقدية، بقدر ما اتفقوا على أنه لم يكن مجرد كاتب سطر بعض الصفحات، ولكنه كان صاحب مشروع إصلاحى لبناء إنسان متحرر الفكر ثابت العقيدة.. حتى وإن تمرد على واقعه وزمانه.. كان طه حسين، أيا كان الخلاف على بعض أفكاره وتوجهاته، ظاهرة جمعت الفكر والثقافة وبناء إنسان أفضل. ومن حق مصر أن تفخر وتعتز بأنها قدمت للثقافة العربية واحدًا من قمم رموزها، مفكرًا، ومبدعًا، ومصلحًا، وإنسانًا.