بقلم: سليمان جودة
أذكر أنى فى مثل هذه الأيام بالضبط قابلت جيزيل خورى فى مطار الجزائر، وكانت قد جاءت تغطى أخبار القمة العربية التى انعقدت فى بلد المليون شهيد أول نوفمبر ٢٠٢٢.
كانت هى التى بادرت وجاءت للتصافح، والغريب أنها قدمت لى نفسها وكأنى لا أعرفها، وقضينا بعض الوقت فى صالة المطار إلى أن انتهى الموظف المختص من ختم الجوازات.
وقد لاحظت أنها فى الحقيقة أهدأ مما تكون على الشاشة، ولم أفهم السبب إلا عند الإعلان عن نبأ رحيلها قبل ساعات متأثرة بالمرض الخبيث، فلقد كانت فى منتهى الحيوية وهى تقدم برامجها، ولم تكن كذلك حين صادفتها أمامى فى الجزائر.
وكانت تتكلم معى فى كل شىء إلا عن مرضها الذى كانت تجاهد لتخفى بعضاً من أثره على وجهها، وكانت تضحك وكأنها تخفى بالضحك ما لا تريد أن يظهر على مرأى من الناس.. وأدهشنى أنها كانت تتابع ما تنشره الصحف من مقالات الرأى بانتظام، وأنها كانت تجد الوقت لتقرأ كل ما راحت تحدثنى عنه بعمق واهتمام.
وانشغلنا فى أعمال القمة وقتها، وكنت أشير لها من بعيد إذا لمحتها فى طريق قاعة الاجتماعات، أو تشير هى لى من بعيد أيضاً، ولم أكن أعرف أنه اللقاء الأول والأخير مع سيدة الحوار التليفزيونى على كل شاشة ظهرت عليها، من أول الشاشة الصغيرة فى لبنان، إلى شاشة قناة العربية، إلى شاشة إم بى سى، إلى شاشة سكاى نيوز عربية التى كانت هى شاشة الوداع.
وفى فبراير، كنت فى قمة الحكومات فى دبى، وصادفت كاميرا سكاى نيوز عربية فى طريقى فتذكرتها، وكتبت إليها أسألها ما إذا كانت ستحضر أعمال القمة، وجاء الرد بأنها ستصل فى الغد، وأنها ستتواصل معى بمجرد الوصول، وانتظرت فى اليوم التالى ولم تتواصل، وعرفت أنها اعتذرت فى اللحظات الأخيرة.
كل هذا ولم أكن أعرف أنها مريضة ولا كان غيرى يعرف، وجميعنا لم نعرف إلا عندما انهارت مقاومتها أمام المرض، وعندما رفعت هى الراية البيضاء فى آخر يومين، فطلبت من ابنيها رنا ومروان نقلها من المستشفى إلى البيت لتنام نومتها الأخيرة فى سلام.
ولا أعرف لماذا عندما رأيتها فى الجزائر طافت فى رأسى صورة الجميلة ليلى رستم، أعطاها الله العمر والصحة، وربما كان السبب أن ملامح الشبه بينهما قريبة، ولكن السبب المؤكد أن الشطارة فى المهنة قاسم مشترك أعظم بينهما أيضاً.. ولابد أن الغيورين على مبادئ المهنة سوف يفتقدونها كثيراً.
فمثلها يغار على المهنة كما يغار على نفسه.. ومن شدة غيرتها على مهنتها فإنها أسست جائزة باسم زوجها سمير قصير، الذى اغتالته يد الغدر فى بيروت ٢٠٠٥، وقد عاشت ترى فى الجائزة بعثاً سنوياً لتقاليد الإعلام الذى يحترم عقل المتلقى ويخاطبه.