تتلفت حولك في كل ركن من أركان هذا العالم الملتهب، فتدرك مدى حاجته إلى رجل يشبه أنور السادات الذي مرّ من هنا ذات يوم.
يبدو العالم في حاجة إلى رجل مثل السادات، ليس لأنه اشتهر بالشياكة في ملبسه كما نعرف، ولا لأن «البايب» في فمه كان كأنه علامة مسجلة تدل عليه، ولا لأن سُمرة بشرته الذهبية كانت تميزه، ولا لأنه كان خطيباً من الطراز الأول، ولا لأن إلقاءه في اللغة كان شديد التميز...
ليس لهذا كله رغم ما يستحقه هذا كله، ولكن لأنه رجل عاش يؤمن بالسلام كما يؤمن بالله، وعاش يعمل من أجل ذلك طوال السنوات العشر التي قضاها في القصر، ونجح في سعيه نحو السلام كما نذكر.
سأله مذيع أميركي في حوار تلفزيوني شهير عمّا يحب أن يُقال عنه بعد أن يغادر دنياه، فلم يتردد في الإجابة، ولم يغمض عينيه قليلاً بحثاً عن إجابة يراها مناسبة، كما يفعل في الغالب الذين يتلقون سؤالاً على الشاشة، ولكنه قال على الفور إنه يرغب في أن يكتبوا على قبره هذه العبارة: عاش من أجل المبادئ ومات من أجل السلام.
كأن أبواب السماء ساعتها كانت مفتوحة تستقبل الدعوات والأمنيات، فلقد مات في يوم الاحتفال بنصر أكتوبر (تشرين الأول)، وسقط صريعاً في مكانه بينما كان في كامل هيئته بثيابه العسكرية يحتفل مع «أبنائه» كما كان يحلو له أن يسميهم في كل عرض عسكري.
كان المستشار الألماني هيلموت شميت من بين أعز أصدقائه، وكان من أشد المعجبين به وبعقليته، وفي سنوات حياته الأخيرة كان شميت يقول إنه كلَّما تابع مشكلة من مشكلات العالم المتفجرة، تمنى لو كان صديقه أنور السادات حياً يتعامل معها.
وعندما كتب ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر كتابه عن القيادة في العالم، اختار ستة من القيادات التي عرفها أو قرأ عنها ووضعها بين غلافَي الكتاب، وقد كان السادات واحداً منهم، ولم يكن كيسنجر في حاجة إلى أن يجامل رجلاً مات مثل السادات، ولكنه كان يفهم في العقول وفي القناعات وكان يضع السادات حيث يجب أن يوضَع.
وحين خاض الرجل حرب أكتوبر 1973، لم يكن يخوضها بوصفها هدفاً في حد ذاتها، فالحروب لا تخاض على أنها هدف ولكن بوصفها وسيلة إلى سلام يقوم من بعدها، وهذا بالضبط ما جرى في مرحلة ما بعد تلك الحرب التي خرج منها السادات وجنوده مُكللين بالنصر.
الغريب أن كيسنجر نفسه كان سبباً من أسباب الحرب التي ذهب إليها السادات، ولو كان ثعلب السياسة الأميركية قد تجاوب معه، ولو قليلاً قبلها، ما كانت الحرب قد اشتعلت، وما كان صاحبها قد ذهب إليها، وما كان الذين سقطوا ضحايا فيها قد سقطوا. ففي المرحلة السابقة عليها كان السادات يرسل مبعوثاً من وراء مبعوث إلى الولايات المتحدة، وكان يفعل ذلك على سبيل جس النبض، وكان يدعو الأميركيين إلى أن يتدخلوا ليعقدوا اتفاقاً تعود به الأراضي المصرية المحتلة في سيناء، ولكن بلاد العم سام لم تكن تبالي.
وفي يوم ذهب أحد مبعوثيه إلى كيسنحر يدعوه إلى أن يعمل بجدية بصفته وزيراً للخارجية في طريق السلام، فسمع منه ما جعل السادات يذهب إلى الحرب وهو كاره لها. سمع المبعوث من كيسنجر أنه لا يملك وقتاً يضيّعه مع طرف منهزم، وأن المنهزم ليس من حقه أن يتكلم كما يتكلم المنتصر.
وما إن عاد المبعوث بهذه الإجابة حتى أسرّها السادات في نفسه، وأيقن أنه من جانبه سوف يُبدد وقته هو الآخر مع الأميركيين، وأنه لا بديل آخر أمامه، وأن هذا الوضع القائم على الأرض وقتها مع إسرائيل لا بد أن يتغير ويتبدل بأي ثمن، وربما في مرحلة لاحقة قد راح بينه وبين نفسه يشكر كيسنحر، لأنه نبَّهه إلى ما لم يكن ينتبه إليه.
قضى في الحرب 16 يوماً كاملة، وكان ذلك من يوم السادس من أكتوبر 1973 إلى الثاني والعشرين منه، فلما أحسَّ بأنه حقق الهدف من خوضها أوقفها، ثم راح يستأنف السعي في طريقه من بعدها، ولم تكن الطريق عنده إلا طريق السلام، ولو خيَّروه قبل الحرب ما كان قد ذهب إليها، ولكنهم أرغموه على المشي في طريقها، ولم يكونوا في واشنطن ولا في تل أبيب على الدرجة نفسها من الإيمان بالسلام لديه.
والذين قرأوا مذكرات زوجته السيدة جيهان السادات عرفوا منها أنها ذهبت يوماً ترجوه أن يعفو عن بعض الذين تعرفهم من قرار بالحبس كان قد اتخذه قبل رحيله بأسبوعين. كان الذين اتَّخذ القرار بشأنهم يعارضون اتفاقية السلام التي عقدها بشق الأنفس مع اليهود، وكانوا يتندرون عليها ويسخرون منها، وكان هو يعرف أن الإسرائيليين يمكن أن يستغلوا ذلك، لأنهم كانوا يبحثون عن أي مبرر للعودة عن الاتفاقية والتحلل منها، وكانت العودة عن الاتفاقية من جانبهم تعني القضاء على فرصة نادرة لاحت للسلام أمامه، ولم يكن عنده أي استعداد للتفريط فيها ولا لتبديدها.
كانت ستة أشهر تفصل بين يوم اتخذ قرار الحبس لمعارضي اتفاقية السلام، وبين يوم 25 أبريل (نيسان) 1982، الذي تعهدت فيه إسرائيل بإعادة ما تبقى من سيناء، وكان لا يرى أمامه إلا ذلك اليوم، فأبلغ زوجته بأن كل الذين شملهم القرار، لا الذين جاءت تتوسط من أجلهم فقط، سوف يكونون أحراراً مساء اليوم نفسه، وكان المعنى أن قرار الحبس لم يكن هدفاً في حد ذاته، ولكنه كان وسيلة إلى شيء بعده كقرار الحرب على السواء.