بقلم : إنعام كجه جي
بين فترة وأخرى، ينقل الفرنسيون رفات أحد كبارهم إلى «البانتيون». وهو مبنى يقع في قلب الحي اللاتيني من باريس، عمره 230 عاماً، بني في الأصل ليكون كنيسة ثم تحوّل بعد الثورة الفرنسية إلى مقبرة للعظماء. هل يعترف الموت بالمراتب وهو اللحظة التي يتساوى عندها الخلق؟
الأسبوع الماضي، بمناسبة الاحتفال السنوي بذكرى هدنة الحرب العالمية الأولى، تابع الفرنسيون عبر الشاشات مراسم نقل الجندي موريس جينفوا إلى مقبرة العظماء. حارب في الحرب الأولى وجرح فيها وعاد سالماً. عاش تسعين سنة بعدها يكتب الأشعار والروايات عن أهوال المعارك. وبفضل إنجازه الأدبي أصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية، أي في «مجمع الخالدين».
أعترف بأن اسمه غريب عليَّ، مثلما أن اسم شاعرنا الجواهري لم يطرق أسماع جيراني وزملائي الفرنسيين. أعاظم قوم عند قوم مجاهل. مع هذا تبقى مراسم نقل الرفات إلى «البانتيون» ذات رهبة. يصطف الوزراء والنواب والعساكر والجمهور على جانبي الطريق المؤدية إلى مقبرة العظماء. يتقدمهم رئيس الجمهورية في مسيرة راجلة تقرّ فيها الأمة بفضل كبارها.
من ينسى صورة ميتران وهو يتوجه ماشيا إلى مبنى «البانتيون» ليضع وردة حمراء على ضريح جان جوريس؟ إن الوردة الحمراء هي شعار الحزب الاشتراكي. وجوريس سياسي شارك في كتابة قانون فصل الدين عن الدولة وبذل جهوده لتفادي اندلاع الحرب الأولى. وبسبب جنوحه للسلم اغتاله أحد القوميين المتطرفين.
لم يكن قد مضى على انتخاب الرئيس الفرنسي سوى أيام. وهو قد مشى نحو المبنى برفقة كل رفاق دربه من كبار السياسيين لكنه دخل وحيداً، يتبعه مصور التلفزيون فحسب. وضع الوردة ووقف خاشعاً لدقائق. ثم خرج والوردة التي رأيناها على الضريح ما زالت في يده. كيف؟ كان ميتران أشبه بساحر يستلّ المنديل تلو المنديل من جعبته. وفيما بعد، روى المصور الذي رافقه أن أحد المساعدين اختبأ في العتمة، عند باب الخروج، لكي يسلمّ الرئيس زهرة ثانية.
تبدو أفعال الرؤساء الفرنسيين عفوية بالنسبة للسذّج من مواطنيهم. لكن المُخرج موجود دائماً ومعه خبراء العلاقات والاتصالات والتسويق والماكياج. كل حركة مدروسة وكل خطاب محفوظ، تتم مراجعته وتصحيحه عدة مرات. وحتى ما يبدو زلة لسان يكون مخططاً له لهدف مقصود. إنه فن الحرص على الصورة العامة. لا ارتجال ولا وقوع في بئر الرثاثة.
من بين عشرات العظماء، لم تكن هناك حتى أواخر القرن العشرين فرنسية «عظيمة» ترقد في «البانتيون». وفي ربيع 1995 تم نقل رفات الزوجين بيير وماري كوري إلى مقبرة العظماء. لكن مدام كوري، عالمة الفيزياء التي حازت «نوبل» مرتين، لم تكن فرنسية بل بولونية. وفي 2002 التحقت سيدتان أخريان بها، هما جيرمين تيون وجنفياف ديغول. والاثنتان من بطلات المقاومة في الحرب العالمية الثانية. وفي 2018 شُيّعت إلى المبنى ذي القبة الفخمة سيمون فاي، المرأة الأكثر تقديراً لدى الفرنسيين.
يغمز لنا التاريخ بعينه ويخبرنا أن سيدة خامسة سبقتهن جميعاً إلى الرقاد تحت القبة، منذ عام 1907. إنها صوفي برتولو. ولم تكن عظيمة إلا بمقدار تعلق زوجها العظيم بها. وكان مارسولان برتولو رجل علم وسياسة. لازم زوجته واعتمد عليها في كافة شؤونه وأبحاثه. ولما ماتت مات بعدها بأربع ساعات. جلس عند جثمانها ولم ينهض. وقد ارتأى أرمان فاليير، رئيس الجمهورية آنذاك، أن يتوحد العاشقان في الموت ويدفنا في مقبرة العظماء مثلما توحدا في الحياة. بقيت مدام برتولو تحل لقب: «منسيّة البانتيون».