بقلم: إنعام كجه جي
في عام 1957 أقام الأمير عبد الإله، الوصي على عرش العراق، دعوى قضائية ضد الملحن الفلسطيني رياض البندك. كان البندك مديراً لتحرير صحيفة «ألف باء» الدمشقية وكتب افتتاحية يتهم فيها عبد الإله بأنه يبذل جهوداً لإحباط الوحدة بين مصر وسوريا. حال نشر المقال اتصل الأمير الهاشميّ بالسفارة العراقية ورفع دعوى باسمه الشخصي ضد الكاتب. تصرّف نادر في تلك الأيام وهذه الأيام. تقدّم عشرون محامياً للدفاع عن المتهم. وبعد شهرين من الجلسات والمرافعات صدر حكم بالبراءة.
رياض البندك هو كاتب وإذاعيّ وعازف وملحن. ولد في بيت لحم. درس الموسيقى وتعلّم كتابة النوتة في كلية «الأراضي المقدسة» في القدس. من ألحانه «يا عيني ع الصبر» لوديع الصافي. اللحن الذي وصفه رياض السنباطي بأنه مدرسة فنية متكاملة. زارنا في بغداد أواسط السبعينات البهيّة ومنه استمعت إلى حكايته مع عبد الإله. إنه ملحّن نشيد «بغداد يا بلد الرشيد»، كلمات علي الجارم وغناء عبد الغني السيد. وبعد بغداد التقيت به عدة مرات في باريس. كان يحضر إلى مكتب مجلة «الجيل» لزيارة شقيقه مازن البندك، رئيس تحريرها. وفي كل مرة لا ينسى أن يستعيد قضيته مع الوصيّ.
كان في القاهرة عندما تأسس حلف بغداد. وجلس مع بيرم التونسي وكارم محمود وعملوا أغنية «لما نحالف ما نحالف إلا الأحرار». في أول تأسيسها، لم تملك إذاعة «صوت العرب» أغاني عن الوحدة فنظم واحدة ولحّنها لتقديمها في حفل الإذاعة. كان عبد الناصر حاضراً وأعجبته الأغنية. استدعاه إليه وطلب منه البقاء في مصر.
من ألحان البندك غنت السورية ماري جبران «يا ليل». وكانت جبران مطربة معتّقة من رفيقات بديعة مصابني، سبق وأن لحن لها سيد درويش وداود حسني والشيخ زكريا أحمد. وفي أخريات حياتها انتُخبت نقيبة للموسيقيين في بلدها سوريا. تستمع إلى أحاديث البندك وهو يورد أسماء بيرم والجارم وماري جبران فتراه آتياً من زمن آخر. تلك نيازك انطفأت. وعند وصول فائزة أحمد إلى مصر، كان هو من قدّمها للإذاعة. وكذلك قدّم عليّة التونسية ولحّن لها «لا ملامة». أدت ألحانه حناجر قوية وغنى له مطربون من أمثال نصري شمس الدين وملحم بركات وجورج وسوف وفهد بلان وميادة الحناوي.
لما قام العدوان الثلاثي عمل نشيد «أرض العروبة نار». ولما أعلنت ثورة الجزائر لحّن أول نشيد عنها «لتحيا الجزائر» من كلمات أحد المجاهدين وغناه كارم محمود. وهناك من يخبرنا اليوم أن زوجة الرئيس بومدين عثرت على القصيدة مكتوبة بخط يده وبين أوراقه. فهل يكون الرئيس الأسبق هو كاتب النشيد الذي كان الجزائريون يحفظونه غيباً؟
لو عاش رياض البندك حتى اليوم لبلغ المائة. ولو كانت أحوالنا بخير لاحتفلت بمئويته إذاعات فلسطين وبغداد ودمشق والقاهرة والجزائر. لكننا لسنا بخير.