بقلم : إنعام كجه جي
تخلو باريس من ساكنيها مع بدء الإجازة الصيفية وتعود لتزدحم بهم الشوارع والمقاهي مع عودة الأبناء إلى المدارس والجامعات. إن أغلبهم يذهبون لتمضية العطلة مع العائلة في المنازل المتوارثة عن الآباء والأجداد. يقصدون الأرياف والجبال، أو شواطئ المتوسط جنوباً، والمحيط غرباً. وقد تناقصت أعداد الذين يسافرون للاصطياف في الخارج بسبب الأزمة الاقتصادية، أي ضيق ذات اليد.
اعتاد الجيران أن يطرحوا عليك السؤال التاريخي: أين قضيت الإجازة؟ أنت محاصر بعلامة الاستفهام من البقال تحت العمارة، ومن الصيدلي، ومن بائعة الخبز، وحتى من الإسكافي، أي القندرجي. كلهم ذهبوا وعادوا متوردي الوجنات شبعانين من الشمس والهواء النقي. وأنت قاعد ها هنا لا تدري بمَ تجيب. هل تقول لهم إنك لم تنشأ على ثقافة الإجازة؟ أو إن نوعية عملك لا تسمح لك بالتخفف منه؟ أو إنه لا أقارب للغريب ولا منازل أجداد تستضيفه في هذه البلاد؟ ثم إن باريس بالنسبة لنا هي الإجازة... هي العيد.
قد يخطر ببالهم أن من الطبيعي أن نستغل الإجازة لنأخذ الأولاد إلى البلد الأم. أليس هذا ما يفعله المهاجرون المغاربة والأتراك والبرتغاليون؟ يطمئنون على ميكانيك سياراتهم ويشحنونها بالحقائب الثقال والهدايا من كل نوع ويتوكلون على الله. رحلة سنوية طويلة ومنهكة لكن الصغار ينتظرونها بفارغ الصبر. وأنت؟ إن وطنك فرن يصطلي بدرجة حرارة قاسية وما زالت الكهرباء شحيحة في واحد من أغنى بلدان المنطقة. بلغت ميزانية العام الحالي 153 مليار دولار. مليار ينطح ملياراً والكهرباء مقطوعة.
إن حديث الإجازة هو الأطيب عند الفرنسيين. يبدأ التخطيط لها منذ بداية العام. ثم تمتلئ الشوارع وصناديق البريد ومواقع التواصل بالإعلانات التي تغريك بالحجز قبل فوات الأوان. فالراحة بعد سنة من العمل حق من الحقوق، حتى لمن كان عاطلاً. وهو حق كان متاحاً لموظفي الحكومة منذ 1853، بمرسوم من نابليون الثالث. وفي صيف 1936 صوّت البرلمان بالغالبية على منح كل العاملين إجازة مدفوعة لمدة أسبوعين في السنة، مهما كان عمر العامل أو جنسه أو جنسيته.
في تلك السنة استفاد من القرار 600 ألف عامل. وفي السنة التي تلتها ارتفع العدد إلى 1.7 مليون عامل. والأسبوعان صارا مع الزمن ثلاثة، ثم أربعة، ثم خمسة. تضاف لها ثمانية أيام من العطلات الدينية والوطنية. وساهمت الإجازة المدفوعة في انطلاق السياحة. ازدادت الفنادق وتضاعفت خطوط السكك الحديد. ظهرت بيوت ومؤسسات تستقبل الشبيبة بأسعار مناسبة. كان ذلك قبل أن يتمكن المسافر من استئجار منزل أو غرفة في فندق، في البلاد التي يشتهي، بنقرات قلائل عبر الشبكة الإلكترونية.
كانوا يسمونها «العطلة الكبرى». لكن آخر استطلاعات الرأي تشير إلى أن ثلاثة أرباع الفرنسيين يجدون صعوبة في تأمين نفقات الإجازة. والوضع لدى فئة العمال أصعب منه لدى فئة الموظفين. وهنا تتدخل الدولة لكي توفر للأولاد والبنات سفرات صيفية شبه مجانية إلى الشواطئ والجبال، يذهبون إليها من دون عائلاتهم، بمرافقة مربين ومربيات متخصصين. إن من حق الطفل أن يتريض ويغادر غابات الإسمنت في المدن. يعرض التلفزيون تقارير عن أبناء المهاجرين الأفارقة وهم يقفون مأخوذين بمنظر البحر الذي يشاهدونه للمرة الأولى في حياتهم.
كان ابني صغيراً حين شارك في واحد من تلك المعسكرات الصيفية. تعلّم في الريف كيف يحلب البقرة، وكيف يرسم على قشر القواقع، وعاد وهو يحمل لنا برطماناً صغيراً من مربى التين، من عمل يديه.