صيَّاد النهنهات

صيَّاد النهنهات

صيَّاد النهنهات

 عمان اليوم -

صيَّاد النهنهات

بقلم - إنعام كجه جي

 

والنهنهة في اللغة هي صوتُ الزجر. أي أن ينهنهَ أحدُهم «زاجراً الدابة عن فعل شيء». هكذا تقول معاجم اللغة. لكنَّ المفردة انتشرت بين الناس للتدليل على اللحم المطبوخ جيّداً حتى تذوبَ أوصالُه. وبين هذا وذاك وجدتِ الكلمةُ استخداماً آخرَ لوصفِ الصوتِ الخفيض المتقطع دون أن يكونَ همساً أو ينطق شيئاً، مثل شهقات طفلٍ مكتومة بعد نوبةِ بكاء.

وصيّاد النهنهاتِ، أي الأصوات الخفيّة، صفةٌ صارت من حقّ الفرنسي شارل روز. ومهنةُ هذا الرجلِ التجوّلُ في المدينة والخروج إلى الطبيعة وتسجيل شتَّى الأصوات الخافتة التي نمرُّ بها يومياً دون أن تستوقفَنا. هل التسجيل مهنةٌ يمكن للمرء أن يعيشَ منها ويأكلَ ويشربَ ويلبسَ ويدفعَ أجرةَ البيت؟ حين أنهَى روز دراسة الهندسة في الجامعة لم يفكر في البحث عن وظيفة. قرَّر أن يقتصدَ إلى أقصى حدّ لكي يشتريَ جهازَ التقاطٍ بالغَ الدّقة، يستدير تلقائياً تبعاً لمصدرِ الصوت. وكانت كاتدرائيةُ ستراسبورغ، المدينةُ التي يقيمُ فيها، ميدانَه المفضلَ لاصطياد الأصوات. يكمنُ قربَ صندوقِ الصَّدقات ويضعُ اللقطَ الصغيرَ على الأرض ويتركُ له تسجيلَ رنّاتِ قطعِ النَّقدِ المعدنية وهي تسقطُ في الصندوق.

في مرحلة تالية، اقتنَى شارل روز كاميرا تترافق مع المسجّل. وراحَ يصنع أفلاماً قصيرةً، مدّةُ كلّ منها ثوانٍ، ينشرها على وسائل التواصل. وكانت دهشتُه كبيرةً حين اتسعت رقعةُ متابعيه حتى تجاوزَ عددُ المشتركين الملايين الأربعة. ولأنَّ غالبيتهم من الولايات المتحدة قرَّر أن يضعَ في أسفل الصورةِ ترجمةً باللغة الإنجليزية لمحتوى كلّ فيلم.

ما الذي يجتذب المشتركين وماذا يسمعون عنده؟ سجّل عندك: تكسّر قشرةِ الرغيف حين ينضجُ في الفرن الحجري. رشاشُ الماءِ في نافورة دوّارة. أزيزُ ذبابةٍ تحوم حول طبقِ مربى. خرخشةُ ورقةِ خريف تحت قدمِ أحد المارة. نقراتُ مطرٍ على النافذة. لهاثُ كلبٍ مسرور بعناقِ صاحبه. سافر صيّاد الأصواتِ إلى مدن الشمال، حيث تتجمَّدُ البحيراتُ في الشتاء، واصطادَ قرقعةَ تكسّر قشرةِ الجليد. كَثُرَ متابعوه وصارتِ الهوايةُ مهنةً يعيش منها. اشترى جهازاً لتسجيل الأصواتِ في أعماقِ المياه وقصدَ بحراً وأنزلَ الجهازَ اللاقطَ عدة أمتار تحت السطح. سجّل الذبذباتِ الناجمةَ من مرور الزوارق.

هل هو مخرجُ أفلامٍ أم عالمٌ من علماء الطبيعة؟ هناك في المكتبات أسطوانات تحمل تسجيلاتٍ للمطر والرياح والأمواج وحفيفِ أغصانِ الشجر. استجبتُ للغواية، ذاتَ يوم، واشتريت تسجيلاً قيل إنَّه يساعد على النوم الهادئ المريح. كنَّا في زمن الكاسيت وبقِيتُ مستيقظةً أنتظر لأقلّب الشريط. لكن ما يقوم به عاشقُ الأصوات هذا هو شيءٌ مختلف. إنَّه فنانٌ في توليف مقاطعَ تبهر المتابعين.

إذا مررتَ بباريس ورأيت، في نفق المترو، شاباً يجثو على ركبتيه أسفلَ السلالم الكهربائية الصاعدة أو النازلة، فلا تظنّه عاملاً من عمّال الصيانة. إنَّه المسيو روز في عزّ انهماكِه بالشغل الذي باتَ شاغلَه. ينصب اللاقطةَ والكاميرا لتصوير الصاعدين والنازلين. ينهي مهمتَه في دقيقة أو دقيقتين ويذهب لـ«يطرّز» فيلماً ينشره على «إنستغرام» أو «تيك توك».

وبعد أن اصطاد كلَّ ما في مدينته من نهنهات وهمهمات وهسهسات وخربشات، ووضعَ في جيبه أنواع الخرير والحفيف والمواءِ والصليلِ والهديل، أحصَى ما تجمَّع لديه من عوائد وبدأ يرتاد مدنَ العالم. إنَّ لكل مدينة أصواتاً خاصةً بها. فأن تنشرَ جذعَ شجرة بمنشار في غابة بفالتس في ألمانيا، هو غير تشذيبِ قامةِ نخلةٍ على شطّ العرب في البصرة مثلاً. وتعرف من الموسوعاتِ أنَّ 90 مليار شجرة تنمو في ألمانيا. أمَّا البصرةُ فلا تسل ولا تثرِ المواجع.

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صيَّاد النهنهات صيَّاد النهنهات



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 09:01 2020 الجمعة ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 أكتوبر / تشرين الأول لبرج الاسد

GMT 21:16 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

لا تتهوّر في اتخاذ قرار أو توقيع عقد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab