بقلم : إنعام كجه جي
اختارتها مجلة «فوربس» 14 مرة للقب أقوى امرأة في العالم. لكن أنجيلا ميركل تركت قيادة حزبها، وأعلنت أنها تستعد لمغادرة السلطة. وبعد أن كانت تشارك في تحريك خيوط السياسة الدولية، ستعود إلى بيتها لتغزل خيوط الصوف. ستتخلى المستشارة الألمانية عن ستراتها الصارمة المتشابهة، وتمضي نهاراتها مرتدية روب المنزل. أتساءل عن الخياط الذي فصل لها عشرات السترات المتشابهة في القَصة والمختلفة في الألوان. تتنقل بدون حقيبة يد في زي موحد وسراويل غامقة تقترب من المظهر الرسمي للسياسيين الرجال. والحق يقال إنها نجحت في رسم أناقتها الخاصة المتقشفة. لا أحد يعرف إن كانت تملك فستاناً، ولا أين تحتفظ بالمنديل ومفتاح البيت وحبوب الصداع وقلم الحمرة.
ليس في السياسة عواطف. وهناك من تصور أنها امرأة عديمة القلب. انسحق قلبها تحت عجلات المنصب. لكن ملامحها وهي تستقبل اللاجئين السوريين نفت ذلك التصور. التمعت دموع في العينين الزجاجيتين. وهو موقف استغله خصومها للتنديد بسياستها. لا تحتمل حلبة الحكم ترف المشاعر الإنسانية. وقد تدربت أنجيلا على الصلابة منذ يفاعتها. نشأت في كنف أب قسيس في دولة كانت تعتبر الدين العدو رقم واحد. تفوقت في دراستها لكي تتجاوز ذلك الخلل. انضمت إلى منظمة «الطلائع» ونالت أعلى العلامات في الرياضيات واللغة الروسية. كانت أسرتها تحت المراقبة. ثم ساير أبوها النظام الشيوعي في ألمانيا الديمقراطية وحصل على امتيازات. سمحوا له بالتنقل ما بين الشرقية والغربية لأمور تتعلق برعيته. صار لقبه «القسيس الأحمر».
بفضل تلك السفرات طالعت البنت بعض الكتب الممنوعة، وامتلكت سروال «جينز»، حلم رفاقها في المدرسة. كانت الأولى في الثانوية، لكن قبولها في الجامعة لم يكن مضموناً لأنها قرأت قصيدة لشاعر «برجوازي». وفي النهاية درست الفيزياء في جامعة «كارل ماركس» في لايبزغ. وللحصول على الشهادة العليا كان لا بد من أن تترافق أطروحة الدكتوراه مع بحث مكتوب يثبت فهم الطالب للماركسية اللينينية. وقدمت أنجيلا بحثاً عن نمط الحياة الاشتراكي واجتازت الامتحان. ولعلها اختارت الدراسات العلمية كمهرب. ليس للأرقام والعناصر هوية سياسية.
سقط الجدار وتوحدت الألمانيتان وانضمت أنجيلا إلى الاتحاد المسيحي الديمقراطي. تقدمت وتميزت وشغلت عدة مناصب وزارية. اختارها هلموت كول وزيرة للمرأة والشباب، حقيبة لم تناسبها كثيراً. بلغت موقع الزعامة وفاز حزبها في الانتخابات. أصبحت، في سن الحادية والخمسين، أول امرأة تجلس على كرسي المستشارية. وهي حتى اليوم الدعامة الأصلب في الاتحاد الأوروبي. تزوجت مرة أولى وتطلقت، وتزوجت ثانية لكنها احتفظت بلقب زوجها الأول، ولم تلد أطفالاً. وقد ارتكب الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي هفوة، في أحد اللقاءات، حين خاطب زوجها الحالي باسم «مسيو ميركل». و«المسيو ميركل» معضلة حقيقية لموظفي البروتوكول في القمم الأوروبية. فهناك برنامج موازٍ لزوجات الزعماء يتضمن زيارات للجمعيات النسائية ورياض الأطفال ومتاحف الموضة. ماذا يفعلون بالسيد الوحيد بين السيدات الأوليات؟
أثارت المستشارة ميركل نقمة فئة من مواطنيها حين أعلنت أن في داخل كل ألماني يقبع نازي تجب مقاومته. كما أثارت زويبعة حين كشفت أن جهاز المخابرات في ألمانيا الديمقراطية حاول ضمها للعمل معه. تجربة عادية يتعرض لها مواطنو الأنظمة التسلطية، لا تثير زوابع ولا تقلب فناجين. لكن من المؤكد أن تسلق السلالم الحزبية ليس بالممارسة البريئة. هناك دائماً ضربات تحت الأحزمة. وغداً حين تترك «فراو أنجيلا» السلطة وتتفرغ لكتابة مذكراتها، ستتخلى عن تحفظها وقد تكشف عن وصفات لاذعة جرت في مطبخ الحكم.