بقلم:سمير عطا الله
كتب الدكتور حسن مَدَن، زميل الصفحة الأخيرة في «الخليج»، أنه يصغي إلى أغاني فيروز صباح كل يوم على إحدى الإذاعات المحلية في البحرين. وأورد مقتطفات من نصوص تلك الأغاني، وأكثرها بالمحكية اللبنانية ومن تأليف الأخوين رحباني وألحانهما.
وإن لفي الثلاثة سحراً: المؤلفان الملحنان، وحنجرة الزمان، وأتساءل دائماً: كيف يفهم سمّاع فيروز، مشرقاً ومغرباً، اللهجة اللبنانية؟ ثم أتذكر ما قاله لي الكاتب أمين هويدي: «ليس مهماً أن تفهم كل فيروز. ما تفهمه يكفي، وما لا تفهمه جزء من السحر».
التساؤل الآخر: لماذا تُسمع فيروز فقط في الصباح؟ لماذا لا تتلاءم مع أمزجة المساء والليل؟ والجواب: لا أدري. كما لا أدري لماذا ارتبط غناء أم كلثوم بالليل وبالسَّحَر، وكذلك أغاني محمد عبد الوهاب و«عندما يأتي المساء ونجوم الليل تظهر».
حيثما أكون في العالم العربي أعرف أنني في الصباح سوف أستمع من الإذاعات إلى صوت فيروز. وكنت أعتقد أن طبقة المستمعين من ربات البيوت وعشاق الصبح والـ«F.M»، لكن لم يخطر لي أنها تشمل أيضاً كتّاب الأعمدة، وذواقة الشعر الرحباني، الذي يفوق كثيراً الشعر العامي المعروف بـ«الزجل»، وبعضه منفر وأقرب إلى السخافة ورتابة العقول. انتشل الأخوان الرحباني الشعر العامي والفصيح من الضحالة التي ضربته. ارتقيا بالعامي إلى مستوى الشعر، وطهّرا الفصيح من بلادة النظم. وتولت فيروز رفع الاثنين إلى الغمام.
بعدها دخلنا عصر «الكليبات». وله جمهوره. وله نجومه. كما له أجياله. لكن ليس له صوت يجمع الناس خلفه من المغرب إلى جبيل. وليس له لغة شعرية موحدة. وليس له عظمة الصوت القادر على الاستغناء عن الصورة من دون أن يفقد جاذبيته. العصر الجديد خالٍ من الإبداع الذي يجتذب أمين هويدي وحسن مَدن في إدمان يومي واحد. وعندما احتفلت فيروز بعيدها الثامن والثمانين قبل أسابيع، بدا أنها لن تسلم التاج إلى أحد. المسألة ليست بهذه البساطة؛ لأن هذه المرتبة من الفن ليست صوتاً فقط. أم كلثوم كانت أيضاً أحمد رامي ورياض السنباطي وبليغ حمدي وإبراهيم ناجي. وفيروز هي أيضاً شعر وموسيقى الرحابنة. وحتى من كتب ولحن لها من خارج «العائلة» اندمج في سحرها، بحيث لم يعد أحد ينتبه إلى ألحان فيلمون وهبي أو روائع جوزيف حرب. وقد بقيت سنوات أستمع إلى شعره وأنا أعتقد أنه تطور رحباني أخّاذ. فمن يسأل عن المؤلف والملحن إذا كانت المؤدية فيروز؟
الدكتور مَدَن نموذج من البحرين، بمعنى سنه وثقافته ومناخه الاجتماعي. وحتماً هناك مثال آخر في الجزائر أو مصر.