بقلم -تركي الدخيل
قال أحدُ العلماءِ في بداية منهج يعلمه تلاميذه: «اعلموا أن العِلمَ بحاجة إلى قوة الدافع، وقِلّة الصَارِف». وقد حيَّرتني هذه العبارة المختصرة في كلماتها، الشاسعة في معانيها ومداركها، فـ«قوة الدافع»، وهي الشغف، وعلو الهمة، و«قلة الصارف»، وهي التركيز وعدم الالتفات للمشغلات والمُلهيات، أياً كانت، هما عِمادُ كل نجاح، لأي فكرة، سواء أكانت علماً، أو مشروعاً، أو عملاً، أو غير ذلك.
وقد استقر في علوم المتقدمين والمتأخرين، ووصايا العلماء للمتعلمين، أنَّ بلوغ الغاية، وتحصيل المراد، ولزوم المقصود، وتحقيق النجاح، لا تكون إلا بمواجهة الأهوال، والصبر على المصائب، والتصدي للمصاعب، ومكابدة المخاطر. ولا يتأتَّى ذلك إلا بتمام العزم، وسمو العزيمة، وعلو الهمة.
في (تاج العروس): «الهِمّة، بالكسْرِ ويُفْتَحُ: ما هُمّ به مِن أَمْرٍ ليُفْعَلَ. يقالُ: إنَه لبَعِيدُ الهِمّة والهَمّة. وقالَ العكبري: الهمّة: اعْتِناءُ القَلْبِ بالشيء. وقالَ ابنُ الكَمالِ: الهمّة: قوّة راسخَة في النَفْس طالِبَة لمعَالي الأُمورِ هارِبَة مِن خَسائِسِها».
ولا يختلف الأمرُ في شأن أحد دون غيره، مهما تباينت الدرجات، واختلفت الغايات، على أنَّ الحاجة لعلو الهمة، تزيد كلما ارتفع الهدف وسمت الغاية، كما قيل:
إِذا عَظُمَ المَطلُوبُ قَلّ المُساعِدُ
وكما أنَّ دناءة الهمة، هي القصور عن طلب معالي الأمور، ودليل ضعف النفس وصغرها، فإنَّ علو الهمة من لوازم كِبَر النفس، وكمال سعيها في تحصيل السعادة، وطلب الأمور العالية. في أمثال العرب: مَنْ رَقي دَرَجَاتِ الْهِمم، عَظّمَتْهُ الْأُمم.
وعدّوا الحِلمَ والأَنَاة، توأمين ينتجهما علوّ الهمة.
قال علي بن أبي طالب: «ذو الهمة وإن حط نفسه يأبى إلا علواً كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبَى إلا ارتفاعاً»، لذلك قالوا: مَنْ كَبُرَتْ هِمَتُهُ كَبُرَ اهْتِمَامُهُ، ومَنْ شَرُفَتْ هِمَتُهُ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ.
ومن علَت همته لم يرضَ باليسير وقد أمكن الكثير، كما إنَّه جاد الإنجاز، لا يتمكن منه التسويف، ولا يؤخر تحصيل ما يمكن تحصيله الآن، فإنَّ التسويف والتأجيل، يقعان في زمان غير الزمن الحاضر، وفي الزمن التالي يمكن تحصيل غير ما أجله، فلم يؤخر تحصيل ما آن حصاده، لأنَّه أجّل ما وجب أداؤه سابقاً. أما تأجيل التحصيل لزمن يكمل فيه الفراغ، فقد قال المتقدمون إنَّ هذا وقت لم يخلقه الله بعد! وليعلم أنَّ كلَّ وقتٍ له موانعُه وقواطعُه، فامنع نفسَك من التلكؤ في العزم، وقاطع كل زمن قبل أن يصيبَك بقواطعه، ولذلك قيل: الوقت كالسيف، إن لم تقطعْه قطعَك.
إِذا هَمّ لم تُردَع عَزِيمَة هَمّهِ
وَلم يَأْتِ مَا يَأْتِي مِن الْأَمرِ هَائِبَا
ولا تنَس أنَّك في معظم ما أنت فيه من غاية، وغالب ما أنت ماضٍ عليه من طريق، تسير وحيداً، فآنس وحدتَك بك، وشد عزمَك بعزيمتك، وتذكر أن:
طرق العلاءِ قليلة الإيناس
الأمر أشبه ما يكون بمن يُعرَض عليه في مستهل حياته خيارات مستقبله، ويقال له إن كنتَ عزيز النفس، سامي الغريزة، قوي الرغبة، لا ترضى لنفسك بالدنية، ولا تقنع بما دون الثريا، فوسيلتك لبلوغ ذلك علوُّ همتك. أما إن كنتَ نقيضَ ذلك فالزم دنوَّ الهمة، ومنه قول المتنبي:
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ
فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ
كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ
يُروى عن عمر بن الخطاب، قوله: «لا تصغرن همتكم، فإني لم أرَ أقعدَ عن المكرمات من صغر الهمم».
فمن علتْ همتُه وخشعت نفسُه، اتَّصف بكل خُلُقٍ جميل، ومن دنت همتُه وطغت نفسُه اتَّصف بكل خلق رذيل، كما يقول ابن القيم.
واعلم أنَّك لن تنالَ المرادَ من دون تكلفة لغوب، ومواصلة دؤوب، وليس ذلك للمتواني، ولا المتهاون، ولا المتواكل، فقد قيل:
وإن جسيماتِ الأمور منوطة بمستودعات في بطون الأساود.
وقيل:
إنَّ الأمور مُرِيحُهَا في المُتعِبِ
قال أبو فراس:
إِنّي أَبيتُ قَليلَ النَومِ أَرّقَني
قَلبٌ تَصارَعَ فيهِ الهَمّ وَالهِممُ
وَعَزمَة لا يَنامُ اللَيلَ صاحِبُها
إِلّا عَلى ظَفَرٍ في طَيِّهِ كَرَمُ
وقال الصفدي في لاميته:
الجَدُّ في الجِدِّ والحِرمانُ في الكَسَـلِ
فانصبْ تُصِبْ عنْ قريبٍ غاية الأملِ
قال ابن منظور: «العزم هو: الجِدُّ، عَزَمَ على الأَمر يَعْزِمُ عَزْماً»، وقال الليث: «العَزْمُ ما عقد عليه قَلْبُك من أَمْرٍ أَنكَ فاعِلُه، وهَمّ بالشيء يهمُ هَمّاً نواه وأَرادَه وعزَم عليه».
فكلما عزّ المراد، وسما المطلوب، ازدادت وعورة الطريق، وعقبات السير نحو الهدف.
قال علي بن أبي طالب:
إِذا أَظمَأتْكَ أَكُفّ الرِجالِ
كَفَتكَ القَناعَة شبعاً وَريّا
فَكُن رَجُلاً رِجلُهُ في الثَرى
وَهامَة هِمّتِهِ في الثُرَيّا
وفيه أن همتك العالية تشبعك وترويك دون حاجة لغيرك.
واحذر من المزالق التي تودي بك لدنو الهمة. وأختم بترككم مع الطغرائي في لامية العجم، إذ يقول:
حبُّ السلامة يَثْني همّ صاحِبه
عن المعالي ويُغرِي المرءَ بالكَسلِ
فإن جنحتَ إليه فاتَخِذْ نَفَقاً
في الأرضِ أو سلَّماً في الجوِ فاعتزلِ
ودَعْ غمارَ العُلى للمقدمين على
ركوبِها واقتنِعْ منهن بالبَلَلِ
يرضَى الذليل بخفضِ العيشِ يخفضُه
والعِزُّ عندَ رسيمِ الأينُقِ الذُلُلِ
فادرأْ بها في نحورِ البِيد جافلة
معارضاتٍ مثاني اللُجمِ بالجُدَلِ