بقلم : أحمد بن سالم الفلاحي
يتراءى لنا، وعلى حين غفلة من عمرنا، أننا نملك كل شيء متاح لدينا، نملك أزماننا، نملك حرياتنا، نملك أعمارنا، نملك صحتنا، نملك أموالنا، نملك أقوالنا، نملك أفعالنا، نملك أطفالنا، نملك زوجاتنا، وهكذا نستمرئ هذا التملك في كل شؤون حياتنا، وننام قرري العين، بمشاهد التملك هذه، وكأن الحياة ما خُلقت إلا لتملكنا هذا، وعلينا أن نسبح فيه على امتداد الجهات الأربع، وتمضي الأيام، فإذا هذه الأيام التي موقنون بتملكها تبدأ في إشعارنا بصورة مباشرة وغير مباشرة، بأن هناك حدودًا لتملكنا هذا، وأن كل ما هو حولنا، نراه أو لا نراه نساهم في صنعه، أو لا نساهم، ليس لنا فيه إلا جزء يسير لا يتجاوز نسبة ما، وبخلاف ذلك فليس لنا فيه، وأن فهم تملكنا المطلق ليس صحيحا مطلقا، وأن الجزئية المحدودة في تملكنا لا تتيح لنا السباحة المطلقة في الاتجاهات الأربعة، ولذلك علينا أن لا ننساق كثيرا في تبذير كل ما هو متعلق بنا، لأنه عاجلًا أو آجلًا سنجد أنفسنا، بحكم المنطق، أننا في مساحاتنا المحدودة الضيقة التي لم ننزلها منزلة الاهتمام، وحتى لا ننصدم بواقع ضيّق لم نحسب له حساب، علينا أن نعيد حساباتنا دائمًا وفق هذا المتاح الضيق، ألم يقل: «تنتهي حريتك، عندما تبدأ حرية الآخرين»؟ فمعنى هذا أنك مقيد في إطار معنوي ضيق، وإن تجاوزته، وفقًا لرؤية التملك التي تشعر نفسك بها، فإنك، يقينا، سوف تتعرض للحساب، وأنك ستجد مصدات توقفك عند حد معين لا يمكن أن تتجاوزه، وهذا الحساب الموقوت سيكون مؤذيا بصورة أو بأخرى.
لذلك من لم يروض نفسه على مساحات محدودة في حياته، فإن وقع المعرفة المتأخرة بعد ذلك مؤثر، وعلى درجة كبيرة من العذاب النفسي، أما من أوتي الحكمة، وقر يقينا بهذه المحدودية في الحركة فإن حاله سيكون أفضل بكثير من غيره، ولذلك فهناك عذابات لا يستشعرها إلا الكبار دائما، وهم الذين وصلوا إلى هذه الحقيقة، ولأنهم وصلوا متأخرين، فمأساتهم أكبر، ولذلك تنهمر دموعهم، ولا تشرق مباسهم كثيرا، وقد يلومهم على ذلك من لم يدر حقيقة القصة، وهي قصة طويلة، وفصولها متعددة، ومن يلوم اليوم، سيجد نفسه غدًا في الموقف نفسه، فالحياة لا تهدي دروسا مجانية، فلا بد من أن يكتوي كل منا بمرارة دروس الحياة، ليتعلم شيئا مفيدا، والمشكلة هنا، أن هذه الدروس تأتي متأخرة جدا «في الوقت الضايع» كما يقال، والمشكلة الأخرى أنه حتى لو حاول من هم استوعبوا هذه الحقيقة في وقتهم الضائع، فإن تصديرهم لتجرتهم هذه إلى من بعدهم لن يكون له ذلك القبول، وسقيما ذلك على أنه نوع من المبالغة في المواقف، وعلى أنه نوع من ضيق الأفق، لأن الفهم السائد أن الحياة بها متسع أكبر، وأنه كل ما يحيط بنا هو ملكنا المطلق، نكيّفه كيفما نريد، وكيفما يحلو لنا، وفي أي وقت نريده كذلك، كما يردد اليوم «الأمور طيبة».
استوقفني نص جميل ينسب إلى «مها حلواني» تم تداوله قريبا عبر صفحة الـ«واتس آب» يقول النص -بتصرف- أنه كان أحد البائعين ينادي: «يلي عندو سعادة .. يلي عندو فرح .. يلي عندو حزن .. يلي عندو دمعات قديمة للبيييييييع …!!» فتقول الكاتبة على لسان أحد الأطفال: «أحب الباعة المتجولين .. أسرعت لأمي وقلت لها أنّ عندي ضحكتين قديمات أريد بيعهما، قالت لي افعل ما يحلو لك، اتجهت للبائع وصرخت له: يا عم يا عم بكم الضحك اليوم..؟ قال لي : ضحكة الطفل بليرة، وضحكة العجوز بألف، وعلى حسب العمر نشتري، دهشت من فرق السعر وأخبرته:يا عم الضحكُ ضحكٌ .. لم فرق الأسعار .. ؟ قال لي: يا صغيري ضحكة الكبار نادرة، هذا سبب غلاؤها (…)».