بقلم : أحمد بن سالم الفلاحي
كل المجتمعات؛ بلا استثناء؛ تمر بمرحلة “غسيل للذهنيات” شاءت ذلك؛ بمحض إرادتها؛ أو فرض عليها بقوة التأثير، حيث لا محالة من المرور بحالة التطهر هذه، وهي حالة غير مقلقة إلى حد كبير، بل بالعكس، تنقل أناسها من حالة العسر إلى حالة اليسر، واليسر هنا مساحة تتسع لكل الاشتغالات، وتقبل كل التحديات، وتستوعب كل المراهنات، ولا يعوزها شيء سوى قدرتها على التفاعل، وهضم وتوظيف القادم الجديد، والجديد هنا أيضا؛ هو ما لم تألفه من قبل، فما هو مألوف لم يعد يثير الانتباه، ويربك الحسابات، وهذه الصورة على الرغم من فجائيتها؛ أحيانا؛ إلا أنها تأثيراتها تظل عنوان كبير لمشروع حياة تستمر إلى أن تأتي مرحلة أخرى أكثر حداثة، وأكثر تطورا، لها القدرة على زحزحة مجموعة الثوابت التي أرختها المرحلة السابقة.
ووفقا لهذه الصورة أيضا، يظل هناك معترك قائم بين الاستيعاب الذهني لما هو قادم، وبين مجموعة الإيمانات بضرورة البقاء على ما هو قائم، وهي معادلة شديدة الحساسية، تدخل فيها الأجيال معارك من القبول والرفض، ومن الاستحسان والمعاندة؛ وحسب المعايشة؛ فإن من يتبنى فريق القبول هم فئة الشباب، ومن يتبنى فريق الرفض هم كبار السن، ويحدث هذا أن الفريق الأول يريد أن يعيش تجربة حياة جديدة معبرة عن عمره، وقناعاته، وأدواته، بينما الفريق الثاني يستشعر خوف التخلي عن قيمه، وعاداته، وموروثاته كلها التي أنجزها طوال سنوات العمر التي مرت (بمعنى آخر الخوف على الهوية) وهذه المحاككة بين الاثنين هي الحالة النمطية القائمة في تجربة الأجيال، جيل بعد جيل.
هناك من ينظر إلى المدينة على أنها المتحقق المادي، والتي تمثله الصور الاحتفالية: مبان ضخمة، سيارات فارهة، حياة تشع منها الرفاهية المخملية، نواد، أسواق متنوعة، أنشطة ترفيهية غير أساسية، ولذلك تسلط سهام العتاب، وتنعت مثل هذه الذهنيات بالتخلف، وعدم قدرتها على الإنتاج التقني النوعي على وجه الخصوص، بينما ينظر الآخر على أن المدنية هي متحقق ذهني بالدرجة الأساس، ومتى تأصل هذا المتحقق في الذاكرة الجمعية لدى الشعوب، أصبح من المعلوم قبول ما سوف ينتج عنه من أدوات معبرة عن هذه الذخيرة الذهنية المنطلقة من بيئاتها، والمعبرة عن قدرة أبنائها في المساهمة الفعالة في الإنجاز العالمي، حيث الند بالند.
هناك “وسوسة” قائمة بين إنسان المدينة، وإنسان القرية، وكل طرف منهما يناجز الآخر بما يملك، وهذه الـ “وسوسة” لا تخرج عن مفهوم الصراع بين الجيلين، فبالقدر الذي يرى فيه إنسان المدينة نفسه على أن مكتسبه الذهني أغنى، وبالتالي قدرته على استيعاب مشروع المدنية أكبر، يرى في المقابل إنسان القرية أن ذخيرته القيمية أكثر رسوخا وتماسكا، وهذه المناكفة؛ التي تتم تحت الطاولة، كما يقال، عادة؛ تفضي إلى شيء من عدم التكامل أو التوافق، ولذلك تحرص الأنظمة السياسية إلى تقليل الفوارق القائمة بين الطرفين، وذلك من خلال شيوع عدالة التنمية بين المدينة والقرية، للوصول إلى المكتسب الإنساني الشامل الذي تكون عنده القدرة على التفاعل، والتمازج، وهذه إحدى غايات برامج التنمية الكبيرة.
هذا – أعني به التمايز النوعي في الإدراك الذهني بين الإنسانين في القرية والمدينة – لا يعني بالضرورة أن أحدهما لا يستوعب الآخر في جميع المناخات الاجتماعية؛ على سبيل المثال؛ ولكن تتحقق عند إنسان المدينة الكثير من العوامل المحفزة للإدراك الذهني المبكر، مثل خيارات التعليم (عام، خاص، بلغات مختلفة، وسائل متطورة) التعرض أكثر لوسائل الإعلام، الاحتكاك أكثر بالشعوب، الأقرب أكثر من صنع القرار، المعايشة أكثر للمؤسسات ذات الصلة، هذه العوامل لها القدرة على حقن هذه الذهنيات بصورة مستمرة، وبصورة مباشرة، مما يساعدها أكثر على تطوير محتواها الذهني، وبالتالي المساهمة الفاعلة في الحياة العامة.