بقلم : أحمد بن سالم الفلاحي
يقال لك: فلان “هبة ريح” حيث يذهب المعنى هنا إلى سرعة التفاعل، والصدق في الأداء، والأمانة في التعاطي، فـ “هبة ريح” معنى ضمني يحمل دلالات كثيرة، إيجابية بالدرجة الأساس، والمعنى مأخوذ في بعض جوانبه من مفهوم “رياح الكوس” وهي رياح موسمية عادة ما تهب فيما بعد النصف الثاني من العام، وهي رياح جنوبية شرقية، تؤدي -كما تشير بعض المصادر- إلى “انخفاض نسبي في درجات الحرارة خصوصًا المناطق الساحلية (…) كما تصاحبها أمواج عالية -أحيانًا- وطقس رطب على السواحل”.
فالعلاقة الضمنية بين الاثنين هي السرعة، والاستحباب، فليس في مقدور كل الناس أن يرسخوا في نفوس الآخرين هذه الصفة المحمودة “هبة ريح” والتي يقابلها في المعنى أيضا “رأس حربة” ولعل في تجسيد المعنى بربطه بالـ”ريح الكوس” هذه النسائم الجميلة في زمن الصيف، الذي يرجو الجميع أن تكون لطيفة، ومحبوبة، من لهيب الصيف، وصعوبة التعامل معه، والمعنى مسترسل منذ ذلك التاريخ البعيد، حيث تتجسد المعاني النبيلة في الأشياء المحببة إلى النفس، بينما تتجسد المعاني الصعبة في الأشياء غير المحبوبة، وغير المقبولة اجتماعيًا على الأقل.
وكما نلاحظ في كثير من الأمثلة هي مأخوذة من البيئة المحيطة، فالبيئة هي في ذاتها “ولادة” للأمثال والحكم الجميلة، التي تتجسد فيها القيم السامية -في الغالب- وتظل إلى الصدق أقرب منها إلى مغالطة الواقع، والناس اعتادوا من يتزودوا من واقعهم، فهو الأقرب دائما إلى جس نبض تفاعلاتهم المختلفة، ولا يمكن أن “يغردوا خارج السرب” وهذا أقرب إلى الحقيقة في تجسيد الأصالة، وحقيقة الهوية، وهذا يعكس خصوبة الواقع الاجتماعي المحمل بالقيم والتجارب، التي هي محل تفاعل صادق من قبل أبنائه المعفرة جبينهم بترابه الطاهر.
“هبة ريح” ليس يسير أن يتقلد هذا الوسام أي فرد في المجتمع، فشروط تقلده صعبة، وغير متاحة للجميع، حيث تلعب التضحية، كممارسة للفعل، أولوية قصوى، وتحضر النباهة كحاضن معنوي محفز، أرضية لا بد منها، وهذه صفات تصنع، ولا تأتي هكذا “مجانية” المولد، كما قد يعتقد، وهذه الصناعة تحتاج إلى حاضنة اجتماعية طويلة، وممتدة، وشاملة، تبدأ من اختيار الزوجين للصفات الوراثية المحمودة، والقابلة للإشادة من قبل أبناء المجتمع، ولذلك يأتي الانتساب إلى الأسر الفاضلة محدد مهم عند التفكير للبحث عن الزوجة أو الزوج، فكلا الزوجين يخضعان -في عرف المجتمع- لمثل هذه المقاييس الاجتماعية الشديدة الحساسية، وليس معنى ذلك -بعد الاختيار- أن لا يحدث ما هو غير متوقع، فهذا أمر وارد، والكل خاضع لمشيئة الله وقدرته، ولكن التوجيه النبوي ذاته يؤكد على ضرورة تقصي الحقائق، للوصول إلى جيل تنطبق عليه صفة “هبة ريح”.
“هبة ريح” ثيمة اجتماعية خاصة بالمجتمعات التقليدية، وبالتالي، وإن توفرت في مجتمعات غير مجتمعاتها الحاضنة، فلا يمكن أن تصنف وفق هذا التصنيف الخاص، ومن هنا تفقد حضورها الاجتماعي، وتتماهى مع كثير من الممارسات الأخرى، ولا يكون لصاحبها ذلك الشأن المكتسب في بيئته التقليدية المعروفة، ولذلك عندما يكون أحد أبنائك (ذكر/ أنثى) يستحق أن يحمل هذه الصفة السامية، يخالجك شعور الغبطة والرضا، وترى فيهما امتدادك الذي تأمل، فالظروف الزمنية وأحوال الناس، لن تغيب الأخلاق السامية، وإن تعثرت في يوم ما، لسبب أو لآخر، فإن ذلك لا يخرج عن كونه “لكل حصان كبوة” لا أكثر.
“هبة ريح” يمكن أن تكون مشروعًا إنسانيًا تلعب فيه القيمة الخلقية بورقتها الرابحة، ومن يرى في أحد أبنائه هذه الصفة السامية عليه أن يتعهدها بالرعاية والنمو، ويعمل على تحفيزها، فالمجتمع يحتاج إلى مثل هؤلاء الأفراد الذين تنضح في محياهم صفات الشهامة والرجولة؛ لأنهم الأجدر بقيادة الصفوف نحو المعالي، وهذه العناية والرعاية لا تخرج عن المعنى التربوي الكريم: “علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل”.