بقلم : أحمد بن سالم الفلاحي
في الثامن من الشهر الحالي؛ كتبت عبر هذه الزاوية مقالا حمل عنوان: “ماذا بقي لقادة الرأي” ومن ضمن ما تمت كتابته هو التعريف بقائد الرأي على أنه: “أكثر الناس تعرضا لوسائل الإتصال، وأكثر ميلا للتجديد”.
ومعنى هذا كلما استطاع الواحد منا أن يتعرض لوسائل المعرفة؛ وما أكثرها؛ كلما استطاع أن يتحرر من تجاذبات الفطرة الأولى المسكونة بالمسلمات، ويستلهم رؤى كثيرة، ومختلفة لجوانب الحياة، سواء على مستواه الشخصي، أو الحياة التي يتشارك بها مع الآخرين من حوله، وهذه مسألة مهمة لكل فرد يعيش في مجتمع ما، ربما الإمتحان الأصعب هنا؛ على مستوى الفرد نفسه، أننا لا ندرك مثل هذه الحقيقة إلا بعد فوات الأوان، ومن استوحى ذلك في عمره المبكر، فذلك مرجعه إلى أمرين؛ الأول: أن والديه، أو أحدهما؛ عنده حب المعرفة، وبالتالي يحرص على توريث هذا الحب إلى أبنائه، أو على الأقل أحد منهم، والثاني: أن يكون هناك استعداد فطري لاستيعاب المعرفة منذ هذا العمر المبكر، لدى هذا الفرد أو ذاك.
وفي حيواتنا العامة نقرأ هذه الفروقات الفردية لدى الأشخاص في نظرتهم إلى الحياة، وفي إقدامهم على المغامرة، وفي تحررهم الواضح من كثير من المسلمات الفارضة نفسها بحكم الوراثة على أبناء المجتمع في كثير من مناخات الحياة، وبالتالي فهذا التميز الذي نقرأه على محيا هؤلاء المتميزين ينبئنا أن هناك فاعل خفي يُجلّي هذه النفس من أدران “الغربة المعرفية ..” كما هو العنوان، فالمعرفة متاحة للجميع، ولم يعد هناك من يحتكر المعرفة، كما كان الحال في الأزمان الماضية كما يتناقل ذلك الرواه.
“كل مولود يولد على الفطرة ..” كما هو النص، والفطرة الظاهرة في سلوكياتنا المختلفة، هي ما تدعونا دائما إلى العزلة، وإلى الخوف، وإلى عدم المجازفة، وإلى الإحساس الدائم بفترة الطفولة، وإلى استحضار عبارات الترهيب التي لقنها المربون في ذاكرة طفولتنا، فهناك أساطير، وهناك أماكن مخيفة، وهناك حيوانات مفترسة، وهناك شخصيات مرعبة، وتظل عمليات الأسقاط قائمة طوال فترات تأسيس السلوك التربوي للأطفال، وهذا الإسقاط يشمل الأب، ويشمل رجل الشرطة، ويشمل الحيوانات القريبة منا؛ وإن كانت أليفة؛ كالقطط، والكلاب، كما يشمل الآلات، وقد حضرت مرة موقفا يرتعد فيه طفل لأنه قربت منه مكنسة في حالة تشغيل، فمن هذه الممارسات كلها يؤصل فيه الخوف في الذاكرة الطفولية الطرية، فتظهر على المجتمع بعد عمر ما، وهي شخصية مرتبكة، خائفة من مجهول ما، غير قادرة على المبادرة حتى على أخذ زمام الحديث في مجلس ما، هذا بغض النظر عن مساهمتها بأفكار إبداعية خلاقة في بيئات العمل، أو في البيئات الدراسية قبل ذلك، مع أن الحقيقة أن كل النفوس عندها قدرات إبداعية غير عادية، ويمكنها أن تسهم في إغناء الواقع، أو البيئة المحيطة بالكثير من الأفكار غير العادية، وبالتالي فمحظوظ جدا من يستطيع أن يتحرر من كل ذلك بجهده الشخصي من خلال الحاضنة المعرفية الخصبة، أو الإنتقال إلى بيئة محفزة تستنطق فيه هذه الكوامن المدفونة “بفعل فاعل”.
والواقع مليء بالأمثلة التي تحرر فيها أشخاص من بيئاتهم الخاملة “الأم” حيث تتراجع المعارف والعلومن والمبادرات، على الرغم من تحققها الظاهري، حيث التخصصات العلمية الدقيقة، وتجد مرتعها الآمن في البيئات النشطة “البديلة” فتزهر وتثمر، في مساحة تتسع لكل الطموحات، ولا تؤمن إلا بما هو منجز ومتحقق على الواقع، حيث يقول الفتى: “ها أنا ذا”
هناك يمكن القول؛ أنه على أبناء الجيل الحالي؛ أن لا يضيقوا الخناق كثيرا على مساحات الأفق لدى أطفالهم، بإسقاطهم في تابوهات المسلمات، لأنهم سوف يورثونهم عقد النقص في كل مشاريع حيواتهم المستقبلية، وفي ذلك خسارتان: للإنسان الموكول إليه عمارة الأرض، وللوطن الحاضن والحالم بمستقبل أفضل.
جريدة عمان