بقلم : أحمد بن سالم الفلاحي
تحفل الرسائل اليومية التي يتبادلها الناس عبر صفحة الـ “واتس أب” إلى الدعوة المباشرة إلى الإفراط في السلوكيات الإيجابية، وخاصة تلك التي تذهب إلى العفو، والتسامح، والرضا، والتنازل عن الحقوق المستحقة لك من قبل الآخرين، وتتوغل هذه الرسائل أكثر وأكثر إلى التغاضي عن كل قناعاتك، ومواقفك، ورؤاك، حتى ليكاد المرء يتخيل أنه ما وجد على ظهر هذه البسيطة إلا لخدمة الآخرين فقط، حتى لو أن هؤلاء الآخرين أغلظوا في الإساءة إليك، وحتى وإن تكررت الإساءات، والمصادمات، فعليك أن تتحمل ذلك، وذلك كله حفاظا على اللحمة الاجتماعية، وحفاظا على الود، وحفاظا على “اللمة” وحفاظا على الصورة العامة للمجتمع الإنساني، والمجتمع العقدي، والمجتمع الـ “ملائكي” كما يشير أصحاب هذه الرسائل.
وهذه كلها تراهات، وكلام نظري، ومغالبة على المشاعر الحقيقية، وتجاوزا لما تحتمله الأنفس وفق فطرتها الأولى، وهي الفطرة التي تتنازعها ثنائية متناقضة، ممتدة من القيم الإنسانية من: محفزات الخير والشر، والحب والكره، والرضا والغضب، والهدوء والإنفعال، والسلم والحرب، وغيرها الكثير، حيث لا محيد أمام الإنسان من أن تستوقفه هذه الثنائيات على امتداد توظيف سلوكياته اليومية، شاء أو لم يشأ، وحتى لو حاول الإنسان أن يحافظ على هدوئه وتوازناته القيمية على امتداد يومه؛ على الأقل، فلا بد أن يصطدم بإثارة ما، من قريب أو بعيد، صديق أو عدو، حيث ينقله هذا الصدام؛ المقصود أو غير المقصود، من حالته الساكنة، إلى حالته الثائرة، ونقله من مرحلة إنسانيته، إلى مرحلة شيطانيته، وبعد أن يكون هادئا، متسيكنا، هو إلى ذاته المتموضعة أقرب، فإذا به مارد يحطم كل الحواجز أمامه، لا يفرق بين ضعيف وقوي، صديق أو عدو، حيث تبلغ الإستثارة مداها.
يحدث كل ذلك لأنه إنسان له مشاعر، متناقضة، وهو واقع في مصيدة هذا التناقض، ومعنى ذلك إن تحمل سلوكا مفرطا من شخص ما وهو في حالة هدوءه وتعقله، فلن يتحمل ذات السلوك في حالة أخرى، وتلك هي الفطرة، وهذه الفطرة وإن تهادنت مع بعض المحفزات سواء محفزات دينية، أو محفزات اجتماعية، فإن استيعابها لهذه المحفزات يحدث في حالة السكينة والهدوء، فقط، وقد يكون قبولها في حالات الـ “غنى” المشاعري، أي لا تكون هناك أية ضغوطات خارجية في لحظتها، ومع ذلك يظل قبولا موقوتا، أو مؤقتا، ولا يذهب إلى المداومة والبقاء أبدا.
من جميل ما قرأت عبر ما يتوارد عبر صفحة الـ “واتس أب” النص التالي: “الإفراط في العطاء؛ يعلم الناس استغلالك، والإفراط في التسامح؛ يعلم الناس التهاون في حقك، والإفراط في الطيبة؛ يجعلك تعتاد الإنكسار، والإفراط في الإهتمام بالآخرين؛ يعلمهم الإتكالية، فكم من طباع جميلة انقلبت على أصحابها بالإفراط فيها”- انتهى النص – وهذه من الحكم الرائعة في حق أنفسنا، التي كثيرا ما نهلكها، ونهينها، ظنا منا، لتحقيق التعاون، والتكاتف، والتآزر، مع أننا مع قرارة أنفسنا كثيرا ما نكون غير مقتنعين فيما نكون عليه من ممارسة هذه السلوكيات كلها بالجمل، لأن فيها تصادم مع كثير من قناعاتنا ومواقفنا التي نؤمن بها شديد الإيمان، وعن قناعة تامة، ولذلك فكثير من هذه السلوكيات؛ في حالة ممارستها مجاملة؛ لا تعمر طويلا، ويعود الواحد منا في نهاية المطاف إلى الإنتصار إلى سلوكياته التي يؤمن بها، وقناعاته التي وصل إليها، مهما كان جانب الضرر في ذلك كثيرا، فهذه حقيقة من حقائق الإنسان الذي لا يمكن أن يستمر طويلا في ممارسة سلوك هو غير مقتنع به، أو لا يتوافق مع مصالحه الذاتية، سواء الآنية، أو المرحلية، وربما تكمن المشكلة أكثر في أن الأطراف المتبادلة لسلوك ما، كل طرف يريد أن تكون مكاسبه أكثر، وهنا بيت القصيد.