بقلم : سعود بن علي الحارثي
أسابيع طويلة عجاف أثقل من الجبال الصلد جثمت على صدر العالم، هل نعيش حلما أم حقيقة؟ هل هي مرحلة امتداد لقصة فيلم مرعب مزلزل لا تزال كوابيسه مستحوذة على عقولنا فنتوهم بأن ما عرضه الفيلم واقع ملموس؟ أين المتنبئون بالمستقبل المنجمون وقارئو الكف والفنجان والخبراء المحللون مما يحدث؟ لماذا لم يخبرونا من قبل بأن فيروسا صغيرا لا يرى بالعين المجردة سينشر الرعب والخوف بين البشر، ويجبر حكومات بلدان العالم ـ قويها وضعيفها، صغيرها وكبيرها ـ على اتخاذ سياسات وقرارات مريرة تحيل بين مجتمعاتهم وبين حياتهم الطبيعية؟ وتعيق تحركاتهم، وتسجنهم في منازلهم، وتدمر اقتصاداتهم، وتغلق مصادر رزقهم؟ من يتصور أن يغلق الحرم المكي والجوامع والمساجد وأماكن العبادة أمام عباد الله والمؤمنين به؟ وتصبح مدن العالم الصاخبة لندن ـ ميونيخ ـ فيينا ـ براغ ـ نيويورك ـ روما ـ باريس وغيرها الكثير وأسواقها المزدحمة وميادينها وساحاتها المترعة بالحياة والفن والحركة والنشاط ومركز الاستقطاب أفواجا من شتى بقاع العالم أن تتحول إلى أطلال لا حركة ولا نشاطا ولا ظل إنسان حتى، تمرح فيها الكلاب والقطط والفئران والماعز الجبلي؟ من يتوقع أن نرى طوابير المواطنين أمام المحلات الكبرى (الهايبر ماركت) يتنازعون على كسرة الخبز وقنينة الماء وكيس الطحين وعلبة القهوة وكأن القيامة على وشك أن تقوم؟ بل تابعنا أعمال السلب والنهب والفوضى والتهافت على شراء السلاح للدفاع عن النفس، وقرأنا عن المؤسسات الصحية التي تنهار في أرقى الدول وحكومات أقوى البلدان التي تستجدي الكمامات والأجهزة الاصطناعية والأدوية، هل يعقل أن تغلق باريس حدودها أمام لندن، ولا يستطيع المواطن الألماني أن يصل إلى التشيك، والإيطالي يمنع من وصول مدريد وفيينا؟ المطارات الدولية والداخلية مغلقة والطائرات في مدرجاتها جاثمة وملايين الفنادق مظلمة والمجمعات التجارية الحديثة والأسواق العصرية موحشة… ما الذي يحدث في عالمنا الجميل الذي كان مزدهرا منفتحا على بعضه، نشطا صاخبا بالحركة، مزهوا بقيم العولمة والرأسمالية، متلألئا بأنوار الحداثة والعصرنة والإبداع والابتكار والتقدم والروح الفتية، المفاخر بإنجازاته وصناعاته وثرواته وطفراته العلمية والتقنية والطبية واكتشافاته المتواصلة؟ أين تلك الطائرات الغادية الرائحة في سماء منطقتنا العذيبة المجاورة لمطار مسقط الحديث، فقد كنا نأنس بها ونسافر معها، نحلق في أجواء المحيطات والبحار والمدن والبلدان ونعبر القارات مع المسافرين فيها، نعود برفقتهم إلى أرض الوطن المجيد، لقد اشتقنا إليها وإلى صوتها وصورتها ونحن نلوح لها مستقبلين ومودعين؟ لقد رمى كورونا في مهب الريح بخطط ومشاريع وآمال وطموحات وتطلعات حكومية وإنسانية لا حصر لها مزقها تمزيقا، حجز صديقي هو وزوجته إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل عدة أشهر، للمشاركة في حفل تخرج ابنه المقرر في أبريل، وأغلق جارنا مشروعه الصغير الذي كان مبتهجا جذلا به إلى أجل غير مسمى وكنت من بين المدعوين للتدشين، وألغيت الاتفاقية التجارية التي كان زميلي السابق في العمل ينوي عقدها مع شركة صينية، وتم تأجيل حفل زواج أحد أقاربنا وألغيت كل الترتيبات التي تمت مسبقا، وعلى مستوى أسرتي الصغيرة ألغينا أكثر من حجز سفر مع خسائر مالية. مواعيد لعمليات في مستشفيات في الخارج أو الداخل، ندوات، اتفاقيات، مؤتمرات، فعاليات ومؤتمرات وأنشطة عالمية… جميعها علقت أو ألغيت أو أجلت إلى أجل غير مسمى، لقد ألزم كورونا الأغنياء والفقراء، المسؤولين والعمال، الرجال والنساء، السود والبيض، العجائز والشباب والأطفال منازلهم، ولم يكن ينتق بإصاباته عرقا عن عرق، ولا مستوى دون آخر، ولا يختار النساء ويترك الرجال، ولم يعف الأطفال والشباب، لقد كان عادلا أصاب بلاؤه حتى رؤساء الدول وأفراد العائلات المالكة والفنانين والأغنياء ومشاهير العالم. ومع كل خسائره البشرية والصحية والمالية والنفسية والاجتماعية وكوارثه التي خلفها، فإننا نقول له شكرا كورونا فقد علمتنا الكثير واستفدنا من تجاربك دروسا عميقة، وثقت وعظمت علاقتنا بالله عز وجل، قربت البشر من بعضهم بعضا ووضعتهم أمامك صفا واحدا متحدين مصممين في إرادة صلبة على مواجهتك وكسر شوكتك وإلحاق الهزيمة بك في مشهد إنساني جليل، لقد كشفت عن معدن الإنسان الأصيل وأبرزت أجمل وأعظم ما يمتلكه من قيم ونبل ومشاعر سامية؛ فقدم حياته وبذل الغالي والنفيس وضحى بنفسه ووضعها في تصرف وخدمة الإنسانية، وبث الدعابة والبهجة والسعادة والطمأنينة والتفاؤل لينتشل المحبطين المنكسرين الخائفين المرعوبين وينقذهم من براثنك ويشفيهم من أسقامك، لقد كانت البشرية مثالا “للوحدة الاجتماعية واللحمة الوجدانية والوطنية” ـ ولا أقصد هنا الساسة ومن دار في فلكهم ـ علمتنا بأن الاقتصاد القوي والبنية التحتية الصلبة والتعليم الجيد والخدمات الصحية الراقية هي الاستثمار الصحيح الذي ينفع الدول وينقذ البشرية في الكوارث والأزمات، لقد أبقيتنا في المنزل أسابيع فأنجزنا الكثير، قرأنا كتبا لم نحلم أن نقرأها في هذه الفترة القصيرة، سودنا مئات الصفحات بما جاد به الفكر وهذا المقال مثالا، شاهدنا العديد من الأفلام والبرامج المفيدة، أحسسنا بمشاعر من يحبوننا وخوفهم علينا، كنا قريبين أكثر من أفراد أسرنا، تذكرنا معهم الماضي واستعدنا صوره ومشاهداته وعاداته وتقاليده، رجعنا إلى تداول القصص الجميلة والمواقف السعيدة، شكرا كورونا فقد قدمت للعالم فرصة عظيمة للتجديد والإصلاح والتغيير ليصبح العالم أكثر إنسانية وعدالة ومساواة وازدهارا ورخاء اقتصاديا واهتماما بصحة الإنسان وتعليمه، فرصة ثمينة لنكتشف أجمل وأعظم ما فينا، وأسوأ ما لدينا وما ينقصنا، وما غفلنا عنه لنقيم ونفكر ونصلح ونضيف ونكون أكثر قوة وصلابة. شكرا كورونا.