بقلم : سعود بن علي الحارثي
في أبريل ٢٠١٩م، أي قبل عام من الآن، كانت جريدة (الوطن) الغراء تنشر سلسلة مقالاتي بعنوان (الأندلس صراع الأفكار والمشاعر والمشاهد) التي ضمنتها تطوافي في مدن الأندلس وإسبانيا، وبعدها بعدة أشهر نشرت مقالات أخرى بعنوان (ينابيع المعرفة أطفأت حمم الحروب) عن رحلتي إلى عدد من الدول الأوروبية، وأذكر مما كتبته عن حرية الحركة والتنقل وانفتاح أوروبا على بعضها: “يحدث أن ننتقل من قرية في هذه الدولة إلى مدينة في أخرى أو العكس، فلا نقف في طابور على الحدود ولا أحد يحقق معنا أو يطلب جوازاتنا ولا نرى حرسا ولا مراكز تعرفنا بأننا غادرنا بلدا ووصلنا أخرى، ذاك على ما بينهما من عداوات تاريخية وحروب وصراعات مدمرة”، وتساءلت في محور آخر وأنا في منتهى إعجابي وبهجتي بتلك الساحات التي تتميز بها أوروبا المزدهرة والمزدحمة بالأسواق والعلامات التجارية والفنون والبشر والصخب والجمال وكل ما يتمناه الإنسان “كيف تتحول هذه المدن والقرى إلى طاقة هائلة من الحياة والنشاط والحيوية، فتستقطب عشرات الفنانين من مسرحيين ورسامين وقارعي الطبول وعازفي الموسيقى والرقص والفنون الجميلة، وآلاف السياح الذين يعيدون إليها الجمال والبهجة والروح الفتية؟” لم أكن أتخيل حينها، ولست استثناء دون شك بل العالم كله ـ ولم أكن لأصدق أي متنبئ مهما كانت مصداقيته وخبرته في قراءة المستقبل ـ بأن تصبح هذه المدن بعد سنة أشبه بمدن أشباح، ساحاتها وأسواقها ومعالمها الصاخبة مقفرة ساكنة، لا حركة ولا نشاط ولا حياة فيها، ولا أخبار تصلنا منها إلا مشاهد الموت والخراب والفوضى والألم والحزن والحيرة والأسف، تشيع جثامين ضحاياها بالمئات في اليوم الواحد بفعل جرثومة نشرت رعبها بين البشر على امتداد المعمورة، محدثة زلزالا أصاب خرابه وفوضاه وكوارثه جميع بلدان العالم، كنت أيامها مثل الكثيرين من الناس سعيدا مبتهجا بجمال الحياة، ورخاء العيش، وتقدم البشرية، وانفتاح العالم، وحرية الحركة، والتطواف بين بلدانه بسهولة ويسر، وخيارات الرفاهية الواسعة التي يقدمها لنا العصر الحديث، مما يشرح القلب ويفرح النفس ويفيد العقل، كانت الآمال متجددة والتطلعات كبيرة والأحلام ممتدة إلى ما لا نهاية، وكنت مؤمنا بأن عصر الإغلاقات وقفل الحدود ومعيقات السفر، وتقييد الحريات والكوارث والأزمات والأوبئة والحروب العالمية الشاملة قد ولت وانتهت إلى غير رجعة بعد نهايات الحرب العالمية الثانية وتحطيم سور برلين. فعلماء عصرنا وخبراؤه ومفكروه والنوابغ والكوادر، وأصحاب الملكات والمواهب والابتكار في الجامعات والمختبرات ومراكز الدراسات العلمية والمصانع بما قدموه لنا من معجزات علمية ونظم وقيم إنسانية قادرون على وقاية البشرية من هكذا فواجع أو إنقاذه في أيام قصيرة لو حدث أمر ما، بأفكارهم وجهودهم وابتكاراتهم وأبحاثهم واكتشافاتهم وأجهزتهم الدقيقة وأدويتهم الفاعلة، إلا ما يصيب الإقليم أو البلد من أزمات وقتية، فالعالم المتقدم المزدهر المتدثر بلباس الحضارة ليس مستعدا أن يعيد مجتمعاته إلى عصور التخلف والجهل والفقر والأزمات الشاملة التي تستنزف الأرواح والثروات، وتنهش القلوب والأجساد، وتسرق الفرح والسعادة من الناس وتدمر كل ما أنجزته البشرية. لقد كنت غافلا عما يخبئه القدر وما تنذر به الأيام ناسيا أو تناسيت ساعتها وأنا منغمس في سعادة غامرة وقتية قوانين الزمن وفلسفة التاريخ بشأن النهايات وتبدل الأحوال وتغير الدول والحضارات مما حدث لمن قبلنا من أمم وقوى، وما أضعف الإنسان وأجهله، في لحظات الصفاء يمتلئ صلفا وزهوا وغرورا معتدا بنفوذه وماله وصحته وشبابه وازدهار حياته وجمالها، وكأنه ملك الكون. لقد عاشت أوروبا على مدى ثلاثة عقود حياة رخاء وازدهار وأمن وسلم واستقرار، ومجتمعاتها تنسمت روح الحرية والمساواة والقيم الديمقراطية، وانفتحت على بعضها البعض وأصبح الأوروبي والسائح يتنقل بينها بحرية وسلاسة ويسر، وقدمت ذاتها كنموذج على طريق التقدم والنهضة الإنسانية الشاملة، ونجاح مشاريع الوحدة والمؤسسات والمشاريع المشتركة والتنسيق، السوق الأوروبية المشتركة ـ العملة الموحدة لدول الاتحاد الأوروبي ـ المنظمة الاقتصادية الأوروبية ـ المجموعة الأوروبية المشتركة ـ حدث هذا الازدهار الشامل بعد قرون طويلة من الحروب والصراعات وعصور من التخلف والظلام والجهل والكوارث والأوبئة التي فتكت بالملايين ودمرت أوروبا مرارا، والتحقت بها دول أخرى آسيوية وإفريقية وأميركية كثيرة نهضت من ركام التخلف والرجعية والضعف والفقر والجهل، منها من حقق تقدما هائلا وأصبح منافسا قويا لها وللولايات المتحدة الأميركية، ومنها من يسير في درب التصحيح والإصلاح والتقدم، وأخرى انطلقت في الطريق قريبا ولديها طموحات وتطلعات واسعة وحققت نموا غير مسبوق في اقتصاداتها، وبدأ العالم قبل كورونا صلبا قويا متينا يعيش ازدهارا ونموا وتقدما ورقيا وتشابكا وتعاونا في تحقيق المصالح المشتركة وانبثاق التكتلات الاقتصادية خاصة، وحتى تلك الدول القليلة التي ما زالت ترزح في أتون صراعات مسلحة وأزمات اجتماعية واقتصادية تعمل على لملمة جراحها والاستشفاء من أسقامها والبدء في معالجة مشاكلها وبناء نفسها…ولم تكن جائحة كورونا غير المسبوقة في العصر الحديث في بال أحد؛ فقد خلطت الأوراق وصدمت البشرية ونشرت الفوضوية، وجعلت المؤسسات الصحية المنهكة والقاصرة عن تقديم خدماتها لجميع المصابين في أرقى الديمقراطيات بين خيارين أيهما الأولى تقديم العلاج وإنقاذ الشباب أو الشيوخ؟ وترك المسنون أمام أقدارهم في موت محتم، والحكومات بين إنقاذ المجتمع من كورونا أو إنقاذ الاقتصاد والتضحية بالإنسان؟ وطرحت التساؤلات العميقة الأخلاقية والاقتصادية والسياسية حول شكل العالم بعد كورونا، وهل سيعود إلى ما كان عليه سابقا أم أننا نعيش مرحلة تاريخية فاصلة بين عصر وعصر؟ وانعكاسات فرض حالات الطوارئ وتقييد حرية الحركة وإلزام الناس بالبقاء في منازلهم، وإغلاق مصادر رزقهم على القيم الديمقراطية ومكتسبات حقوق الإنسان والحريات الفردية؟ لقد استنزف كورونا تريليونات الدولارات من الثروات، وأنهك الاقتصادات وهوى بمؤشرات البورصات وأغلق الدول والأسواق، وأوقف كل أشكال الحياة، وقيد الناس وحجر على نصف سكان العالم في منازلهم في حدث لم نشهده من قبل، وعجز الساسة والأطباء والعلماء والخبراء المحنكون ومراكز الأبحاث والدراسات واستشراف المستقبل عن الإجابة على أهم سؤالين وهما: إلى أين يقودنا كورونا؟ ومتى سينتهي هذا الكابوس؟ فهل يعيش العالم مرحلة كورونا بين عصرين، مختلفين في كل شيء؟ وكيف سيكون شكل الحياة بعده؟ الإجابة على سؤال المقال مرتبطة بالإجابة على السؤالين اللذين ما زال العالم عاجزا عن الإجابة عليهما.
المقال من صحيفة عمان