بقلم : حاتم الطائي
دخلت عُمان قبل ساعات في حالة الإغلاق التام بين المُحافظات، وسريان قرار منع الحركة من بعد الساعة السابعة مساءً حتى السادسة صباحاً، وهو قرار حكيم يعكس الحس العالي بالمسؤولية لدى اللجنة العُليا المُكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس "كورونا"، والذي جاء بعد دراسة مُتأنية أكَّدت حتمية فرض هذا الإجراء في ظل الزيادة المضطردة -مع الأسف- في أعداد الإصابات والوفيات الناجمة عن "كوفيد 19"؛ لذا نأمل من الجميع في كل أرجاء الوطن، أن يلتزموا بهذه القرارات وغيرها؛ لأنه لم يعُد أمامنا بدٌّ من التقيد به في ظل الكثير من المُتغيرات، وضرورة اتخاذ ما يلزم من إجراءات عملية حقيقية لكبح جماح هذا الفيروس.
ففي الأسابيع الأولى من انتشار وباء "كورونا" حول العالم، حشد البعض للترويج لنظرية "مناعة القطيع" أو المناعة المجتمعية؛ باعتبارها الحلَّ الناجع للتعامل مع هذا الوباء المستجد، والذي لا يعرف العالم له لقاحاً أو دواءً حتى الآن، ومن ثمَّ طرح البعض هذه النظرية لتكون خَلَاصاً للبشرية من ويلات هذا الفيروس، لكنَّ المُتغيرات والتطورات البحثية والمعرفية حول الفيروس، والتي تظهر تباعاً، برهنتْ فشل هذه النظرية، وأنَّ تنفيذها جريمة إنسانية.. فما الحلُّ إذن؟!
الحلُّ من وجهة نظرنا يستند إلى أسسٍ علمية وبحثية وثَّقها العلماء في مراكز البحث، وفي الأوراق العلمية المعتبرة، والتي دلَّلت على انعدام الفائدة من نظرية مناعة القطيع، من مُنطلق أنَّ الفيروس لا يزال مستجدًا، وأن ما نعرفه ليس سوى القليل من الكثير حول المعلومات الخاصة بهذا العدو الخفي. وتلك النظريَّة يشوبها في واقع الأمر العديد من المغالطات، وتتسبَّب في تداعيات كارثية بأي مجتمع يُفكِّر أن يطبقها، والنقطة الأساسية في رفض هذه النظرية أنْ لا أحد يعلم مدة المناعة التي يكتسبها المريض بـ"كوفيد 19" حال إصابته وتعافيه. والدراسات التي صدرت خلال الأيام القليلة الماضية تُؤكد أن هذه المناعة غير محسُومة على الإطلاق، ورُبما بصورة كبيرة تبدو مناعة مُؤقتة لشهرين أو ما يزيد، ولم يتم حسم العنصر الزمني في تلك المناعة. وهذا يقُودنا إلى الحديثِ عن موسميَّة هذا الفيروس، وهل يتصرَّف مثل فيروسات الإنفلونزا الموسمية، أي أنه ينشط في ظل ظروف مناخية معينة، ويخمُل في ظروف أخرى؟ هذا أيضًا لم يتَّضح بعد، رغم أن العلماء حول العالم يتحدثون عن "موجة ثانية" من العدوى ستضرِب العالم في الخريف المقبل، وتحديدا في شهر أكتوبر؛ مما يُهدد بانتكاسات عدة، على القطاعات الصحية أو الاقتصادية.
هذا بخِلَاف ما قد ينشأ من ضغوط غير مسبوقة على القطاع الصحي تهدِّد فعاليته؛ ففي ظل توافد أعداد كبيرة من المصابين على المراكز الصحية والمستشفيات رُبما يتعرض هذا القطاع -لا قدَّر الله- إلى الانهيار، ومن ثمَّ فإن تعافيه سيكون مُكلفا للغاية؛ سواء على مستوى أرواح المرضى أو الطواقم الطبية.
وكلُّ تلكم الخسائر لا تشمل القطاعات الاقتصادية، فنحن نعلم كيف تسبَّبت الإغلاقات التي نفذتها دول العالم -ومنها السلطنة- في خسائر بالمليارات وربما التريليونات من الدولارات، وهنا في عُمان كم شركة أفلست أو صفَّت أعمالها نتيجة لتداعيات "كورونا"! وكم مُستثمر خسر أمواله التي ضخها في مشروع لكنه انهار في ظل الأزمة؟ الإحصاءات أيضًا ستكشف لنا كم عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي دخلتْ في نفق مُظلم جراء الجائحة، فضلا عن أعداد الموظفين الذين أُنهيت خدماتهم، لعدم قدرة المؤسسات على دفع رواتبهم... إلخ!
نحن إذن نتحدَّث عن خسائر لا حدود لها، نتيجة انتشار هذا الفيروس فيما بيننا، لكن الأهم أن نسأل أنفسنا مَنْ السبب في انتشاره والسماح له بحرية الحركة داخل المجتمع، هكذا بلا قيود تحدُّ من حركته أو ضوابط تمنع انتقاله من جسد مصاب إلى آخر؟! إنَّه الإنسان، ذلك الذي يتحرك ويقضي حياته وكأنه يعيش في كوكب آخر، وكأنه لم يسمع عن "كورونا" أو يعلم عن صديق أو زميل له أصِيب به!!
ومن هنا، نصل إلى نتيجة حتمية تفرض علينا اليقين بأنَّ الحل في أيدينا نحن: الالتزام الشديد بالضوابط والتعليمات الصحية؛ مثل: ارتداء الكمامات في جميع الأوقات، طالما خرجت من منزلك، والمواظبة على غسل اليدين بالماء والصابون جيدا، والحفاظ على مسافة مترين لتحقيق التباعد الجسدي مع الآخرين، ومن جانب مؤسسات الدولة أنْ تواصل إجراء الفحوصات للمشتبَه في إصابتهم والمخالطين للمصابين، مع تطبيق العزل التام، والتوسع في جهود الفحص وبصفة دورية.
وعلى أثر ذلك، يتعيَّن على الجهات المعنية أنْ تدعم الحملة الوطنية لارتداء الكمامات، التي دشنتها جريدة "الرؤية"، وتهدفُ من ورائها إلى التأكيد على أهمية ارتداء الكمامة في الحد من الإصابات بفيروس كورونا، وهو ما برهنت عليه الدراسات العلمية ونصائح الخبراء في هذا المجال.
وتنفيذ الحملة الوطنية لارتداء الكمامات، بمثابة حجر الزاوية في تطبيق الإستراتيجية المتكاملة لمجابهة "كورونا"، إلى جانب توسيع نطاق الفحوصات وإجرائها بصورة دورية، وتحقيق التباعد الاجتماعي، فكلُّ هذه الخطوات العملية بمثابة إجراءات وقائية تحمِي المجتمع من شرور هذا الفيروس، وتضمن العودة للحياة الطبيعية بدون خسائر فادحة في الاقتصاد أو الصحة.
ويبقى القول.. إنَّ تعزيزَ الفكرِ الإيجابي هو سبيلُنا للنجاة من أي خطر يُحدق بنا، وخطر "كورونا" أشد ضررًا من غيره من الأخطار؛ فهي أزمة مزدوجة: صحية واقتصادية، وما إنْ طبَّقنا الحلول الإيجابية والأفكار البنَّاءة، سنتمكن من عبور العقبات واحدة تلو الأخرى، وسنُسطِّر ملحمة وطنية كبرى في محاربة عدو لا نراه، وعلينا أن نتذكر جيدًا كم من المعضلات واجهنا ونجحنا عبر الاصطفاف الوطني والتلاحم الشعبي أن نُذلل التحديات ونتخطاها وننتصر، وكُلي أمل ويقين بالله بأننا قادرون في غضون أسبوعين أن نغيِّر ملامح المنحنى الوبائي، وأنْ تنكسر ذروته، ونحيا في أمان واطمئنان
نقلا عن جريدة الرؤيه