بقلم : علي شندب
من ألسنة الحريق المنطلق من طرابلس اتخذ رئيس مجلس النواب نبيه بري ساتراً ليطلق موقفاً بلسانه العاري بعيداً عن منصات مكتبه الإعلامي أو الناطقين باسمه في لقاء الأربعاء أو تكتله النيابي، كسرا للصمت الذي تطلقه التساؤلات من حوله، ليقول "إن العائق ليس من الخارج بل من عندياتنا".
ففي موقف بليغ الدلالات لتشابهه مع إطلاقه "اتفاق الإطار لترسيم الحدود مع إسرائيل"، باسمه وباسم حزب الله توأمه في الثنائي الشيعي، قال بري "لا يجوز لأحد على الإطلاق الحصول على الثلث المعطل". إنه الثلث الذي يشكل أحد عناصر الاستعصاء في تشكيل حكومة المهمة. وهو الثلث الذي استدرج ردا سريعا من المكتب الإعلامي لقصر بعبدا مفاده "أن الرئيس ميشال عون لم يطالب بالثلث المعطل، وحريص على ممارسة حقه في تسمية وزراء من ذوي الاختصاص".
موقف برّي بدا بمثابة دق جرس قوي من حزب الله لرئيس الجمهورية وشريكه في تفاهم مار مخايل التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل، ما يشي بأن الثنائي الشيعي قرّر السير بتشكيل حكومة المهمة، التي وجد فيها ثنائي عون باسيل ترجيحا لمقاربة الرئيس المكلف سعد الحريري في تشكيل حكومة مهمة من اختصاصيين بعيدا عن الأحزاب والقوى السياسية، سيّما بعد بروز ملامح اندفاعة فرنسية جديدة على ضوء تفاهم عكسه الرئيس الفرنسي ماكرون بعد تواصله مع نظيره الأميركي جو بايدن، تفاهم كان مستحيلا في ظل إدارة دونالد ترمب وموقفها الحازم بتشكيل حكومة بعيدا عن حزب الله.
اندفاعة ماكرون المستجدة بعد انتهاء معارك الانتخابات الأميركية، استدعت أرضية لبنانية جديدة تؤمن ولادة قيصرية للحكومة بعد تعذر استيلادها الطبيعي. أرضية شكلت احتجاجات طرابلس الغاضبة والعنيفة، وما تضمنته من استثمار سياسي وتبادل رسائل حامية وقاسية بين أطراف الاستعصاء في تشكيل الحكومة وخصوصا الرئيس المكلف سعد الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون ومن أمامه وعن يمينه جبران باسيل.
لكن هل أن استثمار أطراف السلطة ومحاولتهم إدارة احتجاجات فقراء طرابلس وتوجيه غضبهم ذات اليمين وذات الشمال يعني أنهم يمسكون بمفاصل الجوعى والمهمّشين في مدينة الفيحاء سابقا، أو أن بمقدورهم استخدامهم وتوظيفهم اللاأخلاقي إلى هذا الحد من العبث بأمن المدينة وسلام أهلها وممتلكاتهم؟
لقد تداخلت مشاهد الغضب المتنوعة إلى حد بات فيه الفصل صعبا لتحديد من يتداخل ويتدخل بماذا. فالجموع الهادرة في ساحة النور لم توقف محركاتها ولن توقفها، وصرخات الفقراء جرّاء الإفقار الممنهج الذي استبيحت فيه المدينة بشكل تراكمي ساوى بين وجود الدولة واضمحلالها، وأداء القوى العسكرية والأمنية جعلها في أعين الناس محل شبهة كبيرة.
إنها الشبهة التي ظهّرها كلام سعد الحريري في انتقاده لدور الجيش، كما ظهّرها كلام نجيب ميقاتي حول اضطراره لحمل السلاح لحماية مؤسّساته إذا عجز الجيش والأجهزة الأمنية عن فعل ذلك، خصوصا بعد فشلهم أو تقصيرهم في منع ألسنة اللهب من التهام بلدية طرابلس كما ومن الوصول إلى المحكمة الشرعية.
إنهما البلدية والمحكمة الشرعية اللذين رُفعا على ألسنة بعض مرجعيات السلطة الدينية والسياسية وإبرازهما بشكل مضخم يهدف إلى إدانة المحتجين وتحميلهم مسؤولية ما جرى بهدف محاولة لجمهم عن الخروج إلى الشوارع والساحات والميادين مرة أخرى.
وعليه لا بد من التنويه، أن المحكمة الشرعية في طرابلس التي استثارت بعض النيران فيها غيرة من يلوذون بالصمت تجاه أصحاب الأمعاء الخاوية، لا تقع ضمن مبنى مستقل وخاص بها، ولكنها تقع في الطابق الأرضي من الزاوية الشمالية للسرايا، وهي الزاوية المقابلة لساحة النور، أي أنها تتموضع في أقرب نقطة يمكن للأيدي القاذفة لقنابل المولوتوف أن تصلها. بهذا المعنى فالمؤكد أن المحكمة ليست هدف المحتجين، إنما الهدف هو مبنى السرايا كرمز للسلطة الرسمية الفاسدة التي يتربع على كرسيها المحافظ رمزي نهرا المكروه والمرذول والمتهم بالفساد والإفساد من قبل المحتجين الذين أطلقوا عريضة إلكترونية تطالب بإقالته أو استقالته.
أما مبنى بلدية طرابلس، فإحراقه يشوبه الكثير من الألغاز النظرية، سيّما وأن للبلدية جهاز شرطة وإطفاء خاص بها، لم يقوموا بفعل أي شيء لمنع الحريق، والتحقيق ينبغي أن يتركز على من طلب إليهم عدم القيام بواجباتهم، كما ينبغي للتحقيق إياه أن يتركز على دور الجيش اللبناني وإجراءاته في منع إحراق مبنى البلدية، وهو الإحراق الذي يعني بالحد الأدنى انتحارا للأمن الاستباقي الذي لطالما أتحفنا به ميشال عون، كما يعني فشلا ذريعا للجيش والأجهزة الأمنية يتجاوز الكلام عن التقصير في لجم العبث الممنهج بالمدينة.
فالأمن الاستباقي للجيش اللبناني، بكامل كفاءته وجهوزيته واستنفاره أمام بيوت نواب المدينة لحمايتهم من غضب المحتجين، وقد حالت حماية الجيش لهم مرارا من ألا يُرشقوا بوردة، فلم نرى أو نسمع أن حريقا قد اندلع في أحد منازل النواب، أو أن حجارة المحتجين قد كسرت زجاج نوافذهم، وهذا بفضل الجيش، وليس تقصيرا من المحتجين. بمعنى أن الجيش قادر دائما على حماية الممتلكات العامة والخاصة، لكنه يفعل ذلك استنسابيا أمام بيوت نواب المدينة ومتزعميها، وأيضا أمام فرع مصرف لبنان في طرابلس، وينأى بنفسه عن غيرها مثل إحراق البلدية وقبله عدد من المصارف والشركات حول ساحة النور التي يتمركز فيها وفي محيطها الجيش على الدوام.
هذا الكلام وغيره من السلوك التمييزي للجيش في طرابلس متداول على ألسنة الناس، وهو السلوك الذي رصدت إحدى مشاهداتنا صورة بليغة عنه، إنها الصورة التي تقول إنه في اعتصامات 17 تشرين عندما كانت طرابلس عروسا للثورة، وما بعدها، وجد الجيش اللبناني نفسه مضطرا لاستعمال القوة الخشنة مع المتظاهرين في محاولة لتفريقهم وتشتيتهم، ويومها عمد بعض متظاهري ساحة النور إلى إطلاق هتاف "شيعة، شيعة" بوجه عناصر الجيش، ما دفع بضابط الجيش للطلب من جنوده بالتراجع والابتعاد عن الشباب.
لم يدر بخلد أحد أن يعمد شباب "ساحة النور" إلى استخدام سلاح شباب الخندق العميق (شيعة، شيعة) خلال غزواتهم خيم المعتصمين في بيروت، واقتباسه حرفيا وبالبصمة الصوتية إياها، لكن المؤكد أن صبايا وشباب ساحة النور كانوا متيقنين من فعالية هذا السلاح، ولهذا كرّروا استخدامه واطلاقه دون استئذان أصحابه الاصليين، ما أوقع عناصر الجيش وضباطه في إحراج كلما سمعوا هتاف شيعة شيعة في طرابلس غير الشيعية.
أغلب الظن أن شيفرة احتجاجات طرابلس وأعمال التخريب التي شهدتها المدينة لن تفك بشفافية حقيقية، لأن فكّها يتطلب اضافة للتحقيق مع المشتبه بهم في إحراق البلدية وغيرها، ينبغي أن يطال "داتا الاتصالات" الأمنية الميدانية في طرابلس، وبدون هذا الأمر يكون العمل منصبا على تقديم ضحايا عبارة عن منفذين لما حصل في حين أن التحقيق ينبغي أن يصل لمن حرّكهم وأدارهم ميدانيا وأخلى الطريق أمامهم تحت نظره، ثم تدخل لتفريقهم بعد إنجاز المهمة المتمثلة في إحراق البلدية.
التحقيق لن يصل الى الرؤوس الحقيقية في احتجاجات طرابلس، لأن في هذه الاحتجاجات تداخل استعصاء تشكيل الحكومة، مع كلام عن التمديد لميشال عون، مع رسم صورة رئيس الجمهورية المقبل والتي لم يعد سرا القول أن قائد الجيش جوزف عون يحرص على أن يكون المتقدم الأول في السباق الى قصر بعبدا.
لهذا فالتصويب على الجيش اللبناني الذي افتتحه حسن نصرالله انطلاقا من التحقيق في انفجار المرفأ، وتبعه سعد الحريري انطلاقا من احتجاجات طرابلس، هو تصويب على قائد الجيش ليس ضد وصوله الى قصر بعبدا، وليس لأنه انصاع لتعليمات قائده الأعلى ميشال عون من جهة، واتخذ من احتجاجات طرابلس منصة ترميم لثقة حزب الله به من جهة أخرى، وإنما لأنه لم يمنع ضمنا وأساسا "مولوتوفات" المحتجّين من الاقتراب من مقر فرع المعلومات في سرايا طرابلس المحسوبة ضمن نظام المحاصصة الطائفية على الحريري.
لكن ما ينبغي التوقف عنده بشدة، هو انتقال قطع الطرقات والاحتجاجات خلال اليومين الماضيين الى منطقة "القبة" في طرابلس التي تعتبر من كبرى مناطق طرابلس، لكنها المنطقة الأكثر حساسية من كل مناطق طرابلس الأخرى، وذلك بالنظر الى كثافتها البشرية والعقارية الممتدة الى تخوم مجدليا في زغرتا، والعيرونية باتجاه الضنية شرقا، والمتاخمة لمخيم البداوي شمالا، والمتصلة بجبل محسن والرابضة فوق السويقة والجسرين وباب التبانة.
وعليه فإن المربع الأمني والعسكري الحقيقي في طرابلس هو القبة وليس ساحة النور المجاورة للسرايا حيث المقر الاداري. ففي القبة تتموضع ضمن "ثكنة بهجت غانم" قيادة منطقة الشمال العسكرية، وقيادة فرع مخابرات الشمال، اضافة للمستشفى الحكومي ويتصل بها حائطيا كلية العلوم بالجامعة اللبنانية، ثم مهنية طرابلس الفنية العالية، ثم "سجن القبة" التابع لقوى الامن الداخلي الذي يعج بالمساجين ويليها كلية الآداب فساحة القبة.
وخلال الفترة الماضية كان "سجن القبة" محل اعتصام أهالي السجناء والموقوفين الذين اجتاحهم الخوف على أبنائهم من أن تطالهم جائحة كورونا داخل السجن المعروف باكتظاظه وظروفه السيئة، كحال كل سجون لبنان في ظل انعدام المحاكمات عن "الموقوفين الإسلاميين" وغيرهم، انه الملف المتفجر الذي رفعت مطالبه في احتجاجات 17 تشرين، ولم يحظى أصحابه بقانون عفو وُعدوا به خلال الانتخابات النيابية والعهود والحكومات المتعاقبة، وقد تبخّرت كل تلك الوعود مع الانهيار المالي والاقتصادي الممهد لما بعد انهيار البلد.
وإلى سجن القبة التابع لقوى الأمن الداخلي، برز حراك مستجد تجاه سجن مخابرات الجيش في القبة، حيث يبادر المحتجون إلى قطع الطرقات أمام ثكنة الجيش بهدف الضغط لإطلاق سراح الموقوفين لدى مخابرات الجيش المتهمين بافتعال أحداث شغب وتخريب بينها إحراق البلدية ورمي مولوتوف على السرايا الحكومي.
في أكثر من بلد ومنها "لبنان السبعينات والتسعينات"، شكلت السجون والمساجين وقودا حقيقية للتمرّد والغضب والثورة، حيث اقتلعت أنظمة بأمها وأبيها. والوضع في لبنان وطرابلس خاصة لم يعد يسمح بترف الوقت والمحاصصة الطائفية والحلول التلفيقية، ويرجّح أنه لم يعد يسمح حتى بانتظار الحلول الحقيقية. أكثر من يعي هذه الحقيقة، نبيه بري.
قد يهمك أيضَا :
نبيه بري بعد اعتذار أديب نحن على موقفنا بالتمسك بالمبادرة الفرنسية في لبنان
نبيه بري يكشف أن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية اقتربت من النهاية