بقلم : مشاري الذايدي
يُنشر هذا المقال أثناء جولة أعظم رمز للديانة المسيحية عالمياً، بابا الفاتيكان، فرنسيس، في العراق، خاصة الموصل، مهد نصارى العراق بشتى طوائفهم، وأكبرها الطائفة الكلدانية.
ويتكرّر الحديث عن مستقبل المسيحية، بعد مجازر «داعش»، وكأن ما جرى هو أمر جديد على غير مثال، وثقافة «محليّة» سابقة!
بلاد العراق والشام «الكبرى» وتركيا وأعلى وسط آسيا، وإيران، كانت دوماً مسرحاً للحروب الدينية والطائفية، بين المسيحيين والمسلمين، المسيحيين والمسيحيين، اليهود والمسيحيين، اليهود والمسلمين - بدرجة أقل تاريخياً - الديانات المحلّية قبل الإسلام، مع اليهود والنصارى، مثل حروب الملك العراقي نبوخذنصر ضد اليهود بفلسطين في الزمن السحيق.
لا نريد العودة لهذه الدرجة من القدم، بل عن فتنة كبرى وحروب هائلة جرت في بلاد الشام، بين الدروز وبعض بقية المسلمين، من طرف، والمسيحيين، خاصة الموارنة، من طرف آخر، وكيف كان دور السلطات العثمانية حينذاك، بما أنهم «ولاة الأمر» وقتها؟!
طالع معي:
«وكان هؤلاء الأتراك إذا رأوا نصرانياً فارّاً للالتجاء بهم أو مارّاً على مقربة منهم يرمونه بالرصاص فيقتلونه، حتى إنه لما فرّت النساء إلى ناحيتهم، وكان الدروز قد تركوهن بدون أن يتعرضوا لهن، أتوا مع أولئك الخائفات الأمور البهيمية المنكرة، وقتلوهن، وأخذوا ثيابهن عن أبدانهن، وعذّبوا الأطفال تعذيباً شديداً، حتى صاح النساء في الدروز أن خذونا أنتم واقتلونا ولا تسلمونا لهؤلاء الأتراك». (ص102).
هذا النص السابق هو لمؤرخ وصحافي لبناني - مصري، هو شاهين مكاريوس، صاحب الكتاب المهم والوثيقة الخطيرة بعنوان «حسر اللثام عن نكبات الشام». ثم العنوان الفرعي التالي: «وفيه مجمل أخبار الحرب الأهلية المعروفة بحوادث سنة 1860، مع تمهيد في وصف البلاد الجغرافي والسياسي»، يخبرنا فيه بتفاصيل الحرب الدرزية المارونية، ومن خلفها الإسلامية النصرانية، بداية من بلدة دير القمر في جبل لبنان.
شاهين توفي في 1910، وقد لحق بآخر الحرب الطائفية الرهيبة المعروفة بفتنة دمشق، التي اندلعت بدايتها في جبل لبنان بين المسيحيين والدروز، بتحريض من السلطات العثمانية، حيث تشجّع كل طرف على الآخر، كما شرح باستفاضة «المعاصر» شاهين، الذي قُتل والده شخصياً في هذه الفتنة.
مثلاً يتحدث شاهين عن مثال من هذه الأدوار الخبيثة لولاة العثمانيين في إشعال الفتنة، واستثمارها لاحقاً، فيتحدث عن «نجيب باشا والي الشام يدسّ الدسائس ويهيّج المسلمين على النصارى حتى صارت المذابح التي ينويها الأشرار من الأمور المحتّمة». (ص110).
هذي لمحة تاريخية عمّن هم أصحاب الثقافة الأصلية التاريخية، في هذه المنطقة؛ بإشعال الحروب الطائفية والاستفادة منها وإدارتها لاحقاً.
شاهين أخبرنا عن عشرات الحوادث المحزنة، التي وقعت على مسيحيي لبنان والشام؛ من قتل وحرق وتهجير وهدم كنائس وأديرة، ومتوقَّع من مثقف مسيحي أن تكون عواطفه ومعلوماته أكثر غزارة لصالح جماعته.
الذاكرة المسيحية العراقية أيضاً دامية مع الوالي العثماني وورثته الجدد، ولنا أن نلمّح فقط إلى أن طائفة الآشوريين، بمن فيهم الكاثوليك الآشوريون، يشكّلون نحو 5 في المائة من مسيحيي العراق. يتحدر أغلبهم من إيران وتركيا. فرّ أكثرهم للعراق إثر مذابح من طرف الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى.
هذه الجذور لهذه الثقافة، وتلك الذاكرة الحزينة لمسيحيي العراق والشام، مع الثقافة السياسية والعسكرية العثمانية، هي التي ولدت أفراخها بالموصل، موصل «داعش»، عام 2014، وما زال في الجعبة حديث آخر.