بقلم: طارق الشناوي
اللقطة الثابتة التي استقرت في وجداني أثناء حفل محمد منير في (جدة) التي أقامتها (هيئة الترفيه) بالمملكة العربية السعودية، وحملت عنوان (مشواري)، هي أن محمد منير في تلك الليلة وعلى مسرح (بنش مارك) ولد من جديد.
غنى عدداً من أغنيات البدايات التي منحها الزمن حياة متجددة، وصارت علامات مضيئة على حياتنا ومشوارنا: (الليلة يا سمرة)، و(نعناع الجنينة)، و(بره الشبابيك)، و(علموني)، وغيرها، من خلال رؤية مختلفة لأوركسترا متكامل يقوده واحد من أكثر الموسيقيين موهبة في عالمنا العربي، المايسترو هاني فرحات.
ووجدنا عناقاً سحرياً بين صوت منير والموسيقى، وتابعنا عازفين، يقدمون (صولو) منفرداً، بحضور طاغٍ؛ ليس فقط للنغمة ولكن لطريقة الأداء، وتجاوب منير مع كل هذه اللمحات العصرية التي منحت الليلة قدراً من الدماء الساخنة، ليتوحد الجميع على هتاف واحد: (بنحبك يا منير).
هل كان منير يفكر في بداية مشواره أنه سيواصل كل هذه السنوات البقاء على القمة؟ هل كان يبحث عندما قدَّم أوراق اعتماده للجمهور لأول مرة عام 1977، أنه بعد أكثر من 45 عاماً، سيظل متفرداً محتلاً كل تلك المساحة من الحب، أم أنه كان فقط يخلص للحظة وللزمن الذي يعيش داخل جدرانه.
لم أسأل منير، ولكن عدت بذاكرتي عندما وجَّهت سؤالاً مماثلاً في منتصف الثمانينات، قبل حصول أديبنا الكبير نجيب محفوظ على نوبل بثلاث سنوات، سألته عن الزمن القادم والخلود، هل يشغله الغد؟ فأجابني: «يهمني أولاً جمهور هذا الزمن. أنا أكتب لكي يقرأني الناس، ومستعد أن أغير طريقة كتابتي لو وجدت أن الجمهور الحالي لا يتقبل مفرداتي وأسلوبي في السرد».
قلت له: ألا تشغلك قيمة الخلود؟ فأجابني: «أتواصل أولاً مع الأحياء على هذه الأرض، هذه هي القيمة، ما الذي سأحققه لو أصبح همي الأساسي هو الخلود كقيمة مطلقة؟»، وأطلق -كعادته- تعبيراً ساخراً: «أعتبرها يا طارق قلة قيمة». كانت لديه أيضاً قناعة أن كل جيل سيخلق مبدعيه الذين يعبرون عنه.
الأيام شهدت ولا تزال أن نجيب محفوظ من القلائل الذين قرأهم العالم بكل لغات العالم، إلا أنه ربما أراد من خلال هذا الحوار الطويل الذي نشرته على صفحات مجلة مصرية سودانية تحمل اسم (الوادي)، أن تصل رسالته لمن كانوا وقتها يغمزون ويلمزون، بأن نجيب محفوظ ينجح لأنه على موجة جمهوره فقط، وهو ما يختصرونه في تعبير (شعبوي)، فأراد أن يؤكد على أهمية أن تصبح بينك وبين الجمهور حالة من الوهج.
المبدع في كل المجالات عليه أن ينفتح على الناس، التصاق الفن بالجمهور يضخ في شرايينه نبض الحياة، وفي الفنون التي يتعاطاها الناس يومياً، مثل الغناء، يزداد الأمر حتمية. (ترمومتر) الجمهور من السهل اكتشافه، ترصده ببساطة أرقام الإيرادات وكثافة المشاهدة في الفضائيات والمنصات وغيرها.
وهكذا رأيت محمد منير مساء الجمعة الماضي، في حالة انتشاء غير مسبوقة، لم يفكر منير أنه سيغني لثلاثة أجيال (الجد والابن والحفيد)، فقط استوعب اللحظة بكل أبعادها، واستطاع أن يُمسك بيديه وميض النور، غنى نغمته وكلمته وإحساسه، فصار (مطرب الأجيال).
بديهي أن هناك من تساقطوا بعد أن قهرهم الزمن، بينما محمد منير يولد في كل حفل من جديد، يقرأ جيداً جمهوره، ليكتشف أنه لا يزال على الموجة؛ بل وهو لا يقصد يخلق الموجة!
علَّى محمد منير في جدة (صوته بالغنا)، وعلَّى الجمهور في الحفل صوته بالإعجاب (بنحبك يا منير)!