تباينت ردود الأفعال داخل الوسط الفني والثقافي، وتابعنا تراشقات وتجاوزات بين من يوافق على حضور المهرجان أو الحفل مشاركاً بالغناء أو التمثيل، وبين من يرفض، ويعتبرها بمثابة خيانة عظمي.
بديهي أن تتباين زاوية الرؤية، ما استوقفني هو انتهاك حرمة الذمم والمشاعر، هل من يقيم أو يشارك في حفل لا ينظر أبعد من سور مصالحه الشخصية، أم أنه يعيش الحياة، وفي الوقت نفسه يحمل همه في قلبه.
ما هو الموقف الرسمي الذي تتخذه الدولة؟ لديكم مثلاً في مصر، تم إلغاء مهرجاني «الموسيقى العربية» و«القاهرة السينمائي الدولي» للتعاطف مع غزة، مما دفع منظمي مهرجان «الجونة السينمائي» أيضاً إلى تأجيله، وهناك توجه لإقامته في النصف الثاني من ديسمبر (كانون الأول)، بعد انتهاء فعاليات مهرجان «البحر الأحمر».
الدولة رسمياً وافقت على مهرجانات أخرى مثل «ملتقى المسرح» وأيضاً «موسيقى الجاز»، ومؤخراً التزمت دار الأوبرا المصرية بجدول العروض المسبق الاتفاق عليه، واستقبلت مطربين وعازفين وراقصين يمثلون أكثر من دولة أوروبية.
الإذاعة والتليفزيون الرسميان لم يتوقفا عن بث الأغنيات العاطفية ولا المسلسلات الكوميدية، حتى برامج «النميمة» لم تغلق أبوابها، أعلن الحداد الرسمي في بداية قصف غزة، استمر ثلاثة أيام، ثم عادت الخريطة، كما كانت قبل الغزو الإسرائيلي.
تذكرت فيلم «زفاف رنا» للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، الشريط السينمائي يتناول بشاعة الجرائم الإسرائيلية إلا أنه يقع في إطار الكوميديا، تجري أحداثه بين «القدس» و«رام الله» شاهدته قبل 21 عاماً، في قسم أسبوعي المخرجين بمهرجان «كان».
الفكرة قائمة على أننا نواجه المحتل الإسرائيلي بإقامة أفراحنا وبإعلان ضحكاتنا، وليس بإطفاء الأنوار، وإعلان الحداد، قطعاً لا يوجد في اختيار البشر صواب مطلق، ولا أيضاً خطأ مطلق، هناك دائماً زاوية رؤية مختلفة.
اختيارات تتكئ على قدرات، أتذكر أنني سألت الفنان القدير حسن حسني عن أصعب موقف تعرض له في حياته، قال لي «عندما فقدت ابنتي وقبلها علاء ولي الدين، الذي كنت أعتبره بمثابة ابن لي، وكان علي في الوقت نفسه التزام أن أذهب إلى الاستوديو للتصوير. تلقيت واجب العزاء في (جامع عمر مكرم) وذهبت بعدها مباشرة إلى أكثر من (بلاتوه) لتصوير مشاهدي الضاحكة، رغم أن كل المنتجين قالوا لي سوف نؤجل التصوير، ولكني رفضت».
أتذكر أن سوسن بدر روت لي شيئاً مشابهاً بعد عزاء والدتها، ذهبت مباشرة إلى الاستوديو، عادل أمام علم بوفاة والده وهو يستعد لبطولة «الواد سيد الشغال» في بيروت. صعد على الخشبة وأضحك الجمهور، وبعد نهاية العرض، أمسك الميكروفون وأعلن وفاة والده.
هل هناك فارق بين الحزن الخاص والعام؟
الإنسان هو الإنسان، هناك من لديه ثبات انفعالي يمكنه التحكم والسيطرة على ردود أفعاله، وآخر لا يمتلك تلك المقدرة.
الذي أنتظره من النقابات الفنية في عالمنا العربي هو المسارعة بإصدار بيان لإخماد تلك النيران، السكوت هذه المرة ليس من ذهب، لا أعتقد أن في المعادلة أشراراً وأخياراً، ولكنهم فقط بشر، تتباين ردود أفعالهم.
الأنشطة الرياضية في عالمنا العربي وعلى رأسها كرة القدم لم تتوقف، والجماهير تشجع فرقها وتهتف باسم اللاعب الذي يحقق الهدف، وفي الوقت نفسه تردد: «بالروح بالدم نفديك يا فلسطين»، وهناك من تبرع بإيراد المباراة لصالح أهالينا في غزة.
عربات التبرع بالدم تقف أمام عدد من الملاعب الرياضية ويمنح الشباب سواعدهم للأطباء من أجل أهالينا في غزة الحبيبة.
علينا أن نستعيد درس أم كلثوم وعبد الحليم حافظ بعد هزيمة 67، لم يتوقفا عن الغناء مثلما أعلن مؤخراً مثلاً عمرو دياب وكاظم الساهر وتامر حسني، بل اتخذوا مواقف إيجابية، ووجهوا إيرادات حفلاتهم للمجهود الحربي.
كل إنسان ميسر لما خلق له، ولكن لا تحيلوا الوطن إلى ساحة معركة، يضرب فيها الفنانون والمثقفون بعضهم بعضاً، لقد «تكسرت النصال على النصال».