بقلم : طارق الشناوي
يوم 11 أكتوبر القادم، تحل مئوية الموسيقار كمال الطويل، وبعدها بنحو تسعة أيام، يفتتح مهرجان الموسيقى العربية دورته الـ(32).
أرى الفرصة مواتية لرئيس دار الأوبرا د. خالد داغر أن نرى احتفالًا يليق بالموسيقار الكبير، الذي قدم للمكتبة الغنائية العربية الأعمق والأحلى والأبقى، لم يكن أبدًا الأغزر، فلم يتجاوز عدد ألحانه رقم 400. زميل جيله الموسيقار محمد الموجى 1800، والموسيقار بليغ حمدى 1500. كان «الطويل» في علاقته بالتلحين أشبه بالهاوى وليس المحترف، فهو لا يطارد أبدًا النغمة، هي التي تطارده وتسرق النوم من عينه، ولا تتركه قبل أن يهرع للبيانو ويسجلها.
وضع القدَر في مشوار «الطويل» صوتين، كانا هما صوته، الذي تمنى أن يكونه، عبدالحليم حافظ ونجاة، إنهما عنوان الإحساس في الأداء والشياكة والرقة وأيضًا العصرية، ولهذا كان لهما- بدون أن يقصد أو يقصد- النصيب الأكبر من إبداعه.
منح «عبدالحليم حافظ» اللحن الذي حقق له جماهيرية- بعد (صافينى مرة) للموجى- وهو (على قد الشوق)، الذي قال عنه «كامل الشناوى» (إنه الطبق الطائر الذي حلق به عبدالحليم)، وأول أفلام عبدالحليم (لحن الوفاء)، تم الشروع في إنتاجه بعد النجاح الطاغى لتلك الأغنية، وهو الذي اكتشف لنجاة طريقًا مغايرًا، كانت في البداية تعيد تقديم أغنيات سيدة الغناء العربى أم كلثوم، ولكن «الطويل» قدم لها (أسهر وانشغل أنا) لنصبح أمام صوت له ملامحه المميزة، فنشتاق إليه، صوت يمتلك كل القوة في الإحساس، بديلًا عن الإحساس بالقوة!!.
نجاة هي العنوان الأبرز للأغانى العاطفية لـ«الطويل»، بينما مع عبدالحليم تستطيع أن ترى «الطويل» في حالة عشق مع الحبيبة وعشق للوطن، ومع «أم كلثوم» فلم يزد اللقاء على (والله زمان يا سلاحى) والقصيدتين الدينيتين في الأوبريت الإذاعى «رابعة العدوية»، وهما «لغيرك ما مددت يدًا»، ثم «غريب على باب الرجاء» للشاعر طاهر أبوفاشا. الأغنية الأخيرة منعها «الطويل» من الإذاعة، ولم يفرج عنها إلا فقط قبل نحو ربع القرن، ولها قصة لن يتسع المجال لذكرها هذه المرة.
أما الرائعة الوطنية فكانت السلام الوطنى لمصر بعد معركة 56 وحتى 79، وعندما وقّع «السادات» اتفاقية السلام مع إسرائيل قرر تغيير النشيد الوطنى إلى أغنية سيد درويش (بلادى بلادى) لتتواءم أكثر مع المرحلة السياسية الجديدة. قال لى «كمال الطويل» إنه أثناء العدوان الثلاثى، توجه لا شعوريًّا إلى البيانو، ووضع اللحن، وأسمع الموسيقى إلى صديقه صلاح جاهين، وعلى الفور انفعل، وكتب: (والله زمان يا سلاحى)، وذهب «الطويل» مباشرة إلى أم كلثوم، التي كانت تقطن بجواره، ورغم أن الإذاعة المصرية أحد الأهداف الاستراتيجية للقصف، ذهبت «أم كلثوم» ومعها «الطويل» إلى استوديو الإذاعة لتسجيل «والله زمان»!!.
ظل «الطويل» حتى اللحظات الأخيرة يمارس إبداعه بروح الشباب، فتذكر مثلًا (علّى صوتك بالغنا) لمحمد منير، حيث حرص «الطويل» على إعادة تسجيل اللحن، أكثر من عشر مرات، حتى يؤديه «منير» بأسلوب «الطويل».
الموسيقار الكبير يأخذ كل الأصوات إلى دنياه، لن تجد إلا فيما ندر «الطويل» يغنى أثناء البروفة، إلا أنه امتلك أسلوبًا مميزًا في فن الأداء، يمنحه للمطرب، ولا يتنازل عنه، هكذا عندما تستمع إلى ألحانه لمطربين راسخين مثل عبدالمطلب وقنديل وعادل مأمون ومحمد رشدى ونجاح سلام وفايزة أحمد وصباح وغيرهم، ستكتشف أن هناك ملمحًا خاصًّا، وهو أسلوب «الطويل». أتمنى احتفالية خاصة تليق بالموسيقار الكبير في عيد ميلاده المئوى، ليس مجرد تكريم في الافتتاح كما دأبت من قبل دار الأوبرا، في احتفالات مماثلة. من الممكن مثلًا أن كل مطرب في الحفل طوال أيام المهرجان يختار لحنًا لـ«الطويل» يؤديه ضمن فقرته الغنائية.
«الطويل» مارس في بداية حياته الرسم بالريشة، وظل حريصًا على أن يضع دائمًا لكل صوت ألوانًا خاصة تمنحه مذاقًا مميزًا. ريشة «الطويل» صارت أنغامًا!!.