بقلم - طارق الشناوي
بين الحين والآخر يلعب عدد من النقاد دور البطولة فى (تحلية البضاعة) الأدبية والفنية، يضيفون تفسيرات خارج النص، لم تخطر حتى على بال مبدع العمل، البعض يجدها تعلى من شأن عمله الإبداعى، ولا يكتفى بإظهار سعادته بتلك الرؤية، بل يتعمد التأكيد على أنه كان عامدًا متعمدًا، وأن على النقاد أن يغوصوا أكثر، ليحصلوا على دُرر أكثر.
قرأت مؤخرًا سيرة حياة الكاتب «أرنست هيننجواى»، صاحب «العجوز والبحر»، عندما بدأ النقاد فى البحث عن تفسير لتلك الرواية التى أصبحت واحدة من أشهر وأخلد الروايات فى الأدب العالمى، اعتبروها تقدم رؤية فلسفية للحياة، العجوز يبدأ رحلته فى الصيد، وعندما يعثر على سمكة كبير يمسك بها بقوة، وفى نفس الوقت يتحرك قاربه الصغير فى اتجاه الشاطئ.
وعندما وصل كانت أسماك القرش قد التهمتها، ولم يبق منها إلا هيكل عظمى، قالوا إن هذا الموقف يشبه رحلة الإنسان فى الحياة، عندما تبدأ وهو يعتقد أنه يمسك كل متع الحياة بيديه، ثم ينتهى الأمر بنهايته كهيكل عظمى، التشبيه يضفى الكثير من الزخم الفكرى والفنى على رائعة الأديب العالمى، ورغم ذلك فإن هذا الثناء لم يرضه، ولم يجعله يشعر بأنه قد صار طاووسًا بين أقارنه.
بل أزعجه كثيرًا، وقال إنه لم يتعمد أيا من هذه الرموز، وأضاف هذه التفسيرات تشبه وضع الزبيب على الخبز من أجل تحسين الطعم، وأن كثيرا من الكتاب يهزمون أنفسهم بأنفسهم عندما يسرفون فى وضع الزبيب.
قبل نحو 13 عاما قدم المخرج الكبير داود عبد السيد فيلمه (رسائل بحر)، وفى المشهد الختامى أثار قارب مكتوب عليه اسم «القدس» ،فى نهاية الفيلم، شهية عدد كبير من المنظرين، وحملوه الكثير من التفسيرات، رأينا بطلى الفيلم «بسمة» و«آسر ياسين» وسط البحر، وحولهما الأسماك النافقة واسم «القدس» يتصدر المشهد، لم يكن «داود» يقصد شيئًا، هو فقط استأجر قاربًا بطريقة عشوائية.
وكل القوارب مكتوب عليها أسماء مثل «ما تبصليش بعين رضية بص للى اندفع فيّا»، أو «الحلوة دى من العتبة»، و«بعيد عنك حياتى عذاب»، و«رمش عينه اللى جرحنى».. سيل منهمر من التفسيرات السياسية ذات الصلة بالطبع بمدينة القدس بما تحمله من قيمة سياسية وروحية انهالت على «داود»، كلها تشيد برؤيته السياسية العميقة، وكان «داود» كعادته منضبطًا ومدركًا لخطورة التفسير، حتى لا ينساق وراء إضافات فارغة تحطم رؤيته، ولهذا كان هو أول المعترضين على مكسبات الطعم واللون والمعانى.
أتذكر عندما حقق فيلم (اللمبى) نجاحا استثنائيا فى شباك التذاكر قبل 21 عاما، تعرض لمحاكمة أخلاقية بسبب سلوك اللمبى الذى اعتبروه وقتها يوجه بضراوة ضربات للقيم الحميدة، وهو ما تعرض له مثلا مسلسل (الأسطورة) لمحمد رمضان، قبل سبع سنوات، اعتبروه منح مشروعية للبلطجة فى الشارع، عندما نجحت أغنية عدوية (السح الدح إمبوه) قالوا إن الهزيمة فى 67 دفعتنا لإعلان الغضب المكبوت بكلمات عبثية لا تضع قائلها تحت طائلة النظام.
وعندما غنى عبد الحليم فى (جانا الهوى) مقطع (إللى شبكنا يخلصنا) قالوا إنها واحدة من تبعات الهزيمة تحمل رسالة عتاب للرئيس جمال عبد الناصر، وعندما رددت أم كلثوم (أعطنى حريتى أطلق يديا) عام 66 قالوا إنها تطلب من عبد الناصر الإفراج عن صديقها مصطفى أمين.
أحيانا مبدع العمل الفنى هو الذى يضيف أشياء خارج السياق، مثلما قال الشاعر عبد الرحمن الأبنودى إنه كتب (آه يا أسمرانى اللون) حبا فى عبد الناصر، وقالت شريفة فاضل إنها غنت (أسمر يا سمارة يا أبو دم خفيف) حبا لأنور السادات، أما أغرب التفسيرات فهو ما قالته صباح إن أغنية (من سحر عيونك ياه) رسالة غزل فى عيون عبد الناصر، ونكتفى بهذا القدر!!.