أن تحلم صار عند البعض أملا مستحيلا، إلا أن هناك من يملكون فيضا من الإرادة يجعل المستحيل ممكنا، لنرى فى قلب مدينة (كان) هذا الفيلم المصرى التسجيلى الذى يؤكد للعالم أن الفتاة المصرية من حقها أن تتعلم وتغنى وترقص «باليه»، وتختار شريك حياتها ولا يجبرها أحد بحجة العادات والتقاليد على الزواج وهى لا تزال قاصرا، ولديها أيضا الحق أن ترتدى الفستان، الذى مع الأسف صار مطاردا ومستهجنا حتى فى الجامعة.
كنا نرى رجل الشارع حتى الماضى القريب، وهو يمارس حياته بكل مرونة فى تقبل الحرية الاجتماعية. (ملحوظة): تابعوا أرشيف حفلات أم كلثوم فى الستينيات وحتى مطلع السبعينيات لتدركوا الفارق.
الشريط السينمائى الوثائقى يغير المؤشر 180 درجة، ينقل الحقيقة، ويؤكد أن المرأة لا تستسلم، وأن تلك الصورة المتداولة عن الإنسانة مهيضة الجناح المستضعفة لا تعبر عن الكل، والأهم من كل ذلك وقبل كل ذلك أن هناك صوتا له صدى وفى عمق مصر يقولها بصوت مسموع وأيضا بإمتاع فنى، وأن قطاعا من الشارع الصعيدى متعاطف.
العمق الذى يتبناه الفيلم هو أن الإنسان سيعيش الحياة بحرية كما أراد له الله، وليس كما يريد عدد من البشر الذين يلعبون بدون وجه حق دور الرقيب، من الضرورى أن يسهم الفن فى تقديم صورة حقيقية عما نعيشه على أرض الواقع، لا أحد ينكر الضغوط التى تتعرض لها النساء، فى العالم كله، وفى عالمنا العربى تتضاعف الضغوط ولهذا تتعدد المنظمات التى تدافع عن حقوق المرأة ومنها (مى تو) (أنا كمان) والتى تنشط فى كل التظاهرات الثقافية والفنية مثل (كان).
قهر المرأة له تنويعات عديدة فى العالم مع اختلاف الدرجة، تقديم الوجه الآخر، لنساء يقاومن عمليا وليس فقط نظريا، من خلال فرقة مسرحية تقدم عروضها بخفة ظل وإتقان فى الشارع، يعنينى أيضا فى نفس اللحظة كيف يتقبل الشارع المرأة عندما يعلو صوتها مدافعة عن حقها، ورأيت قطعا مقاومة من البعض، وفى نفس اللحظة كانت الكاميرا تنقل من الشارع تلك الحقيقة التى نرددها فى حياتنا (بداية الغيث قطرة).
فما بالكم عندما نتابع هذا الفيض من الغيث الذى شاهدناه فى قالب فنى، لو حكى لى بعضهم ما يجرى غالبا لن أصدقه أو سأعتبرها فى الحدود الدنيا مبالغة، أو أملا بعيد المنال، إلا أننى عندما رأيت الفيلم أيقنت أن الإرادة تقهر المستحيل، وأن المرأة تملك الكثير من الأسلحة التى تساعدها على تعديل المسار، عندما ترى تراجعا داخل المجتمع وفى نفس الوقت تكتشف داخل المجتمع الذكورى من يتعاطف لمناصرة المرأة، وهذا يعنى قطعا أن هناك تغييرا قادما فى المشاعر، حتى لو كان طفيفا إلا أنه يشير إلى ما هو قادم.
أتشبث على مقعدى فى دار العرض وأنا أرى فتيات مصريات من الصعيد يقفن بثبات على المسرح ويقدمن فيلمهن للجمهور. لا رهبة ولا خجل، ولكن ثقة فى أنهن صاحبات حلم يستحق أن يراه الجمهور، قدم الشريط السينمائى للحاضرين فى القاعة المخرجين الزوجين أيمن الأمير وندى رياض، نتابع فرقة نسائية من قلب الصعيد وتحديدا قرية (البرشا) فى المنيا وقفن فى إحدى أهم المسابقات الموازية لمهرجان (كان) وعلى مسرح قاعة سينما (ميرامار) فى تظاهرة (أسبوع النقاد) رقم (63) ليرفعن اسم مصر.
السيناريو كما حرص عليه المخرجان الزوجان ندى رياض وأيمن الأمير يمنح التلقائية دور البطولة، فهو يترك مساحة مقننة من العفوية للجميع. فى هذا القسم (أسبوع النقاد) يتم اختيار الأفلام التى تملك جرأة إبداعية، شاركنا فيه لأول مرة قبل ثلاث سنوات، وحصلنا أيضا على الجائزة الذهبية الكبرى بالفيلم الروائى الطويل (ريش) إخراج عمر زهيرى، الذى مع الأسف تلقى بعدها ضربات تحت الحزام، ولكن تلك حكاية أخرى لا مجال الآن لسردها وأتصور أنها غير قابلة للتكرار.
فى البداية اعتقدت أن المقصود بعنوان (بانوراما البرشا)- وهو اسم الفرقة المسرحية الغنائية- هو المعنى التونسى الدارج لكلمة (برشا) والذى يعنى الكثرة وتعارفنا عليها فى مصر والعالم العربى بعد أن ردد الكلمة صابر الرباعى فى أغنية شهيرة.
قرية (البرشا) كما هو واضح من الشريط السينمائى ذات أغلبية مسيحية، لا تجد أى ملمح دينى مباشر فى الشريط السينمائى، الذى يقدم فقط داخل نسيج الأحداث جزءا من طقوسهم مثل الزواج، كما أنك فى البيت ترى مثل أغلب بيوت الأقباط المصريين صورا للسيد المسيح عليه السلام وللسيدة مريم العذراء، تفاصيل يفرضها طبيعة الشخصيات التى تحتل مقدمة (الكادر) على الشريط، وبالمناسبة قطاع من المسلمين أيضا يعلقون فى بيوتهم صور (السيدة العذراء) ويتبركون بها.
أن ترى قرية يغلب على سكانها الديانة المسيحية، لمن لا يعرف تركيبة الصعيد ربما يعتبرها نادرة، بينما هى متكررة، تعودنا أن نرى المصرى غالبا فى العديد من التنويعات السينمائية الدرامية والوثائقية مسلما، فى القاهرة مثلا لا توجد أحياء محددة للديانة، عادة يحدث هذا التوافق بين عدد المسلمين والأقباط، بينما الأمر فى بعض قرى الصعيد ليس دائما على هذا النحو، هناك تركيبة ديموغرافية أحيانا تفرض حضورها.
إلا أنك وهذا هو الأهم على الشاشة تراهم مصريين وفقط، الدين هنا جزء من الطقوس فى الحياة، لا يستغرق الأمر كثيرا لينتقل المخرجان ندى وأيمن إلى القضية الرئيسية وهى تلك الفرقة الفنية التى تسعى لإثبات وجودها فى الحياة، والسفر للقاهرة، وعدد من أحلامهن المشروعة لتقديم أعمالهن المسرحية فى رقعة أكبر، بل وتحلم واحدة منهن (مونيكا يوسف) بمنافسة المطربة أصالة.
فرقة (البرشا) تناقش على المسرح الحكايات الواقعية التى نعيشها ونكتوى بنيرانها، بمنتهى الجرأة؛ موسيقى وغناء فولكلورى ودراما لا تعرف النفخ فى الزبادى، بينما نرى على الجانب الآخر، كيف أن هناك من يتعمد إغلاق كل الأبواب، أمام النساء.
المخرجان ندى وأيمن حرصا على حضور الشارع، وواقعيا ما رأيته أكد أن لدى البعض هامشا من المرونة، هذا ما قدمه الشريط مباشرة، ستلمح أيضا فيضا من خفة الظل، واستطاع الفيلم تصدير حالة من البهجة للجمهور. السيناريو نقل لنا لحظات الخيال الجامح لهذا الفريق الموهوب المكون من يوستينا سمير مؤسسة الفريق وماجدة مسعود وهايدى راسخ ومونيكا يوسف وليديا هارون ومارينا سمير. رحلة رائعة قضيتها مع فتيات مصريات موهوبات، قلن للعالم من خلال شريط عليه توقيع ندى وأيمن إن فى مصر نساء من ذهب!!.