بقلم: طارق الشناوي
غادرنا الفنان التشكيلى الكبير، حلمى التونى، الذى أحال اللوحة إلى (طقطوقة) غنائية، عندما أذهب إلى معرضه أشعر وكأننى فى حفل بدار الأوبرا المصرية لولا أننى أعيد النظر مرة أخرى فاكتشف أنها قاعة (بيكاسو) وأننى فى حضرة واحد من أساتذة الإبداع التشكيلى فى مصر، وأن الأغانى التى أرى بعض مقاطعها مكتوبة على اللوحات، امتلكت كل هذا الحضور؛ لأن خلفها نساء حلمى التونى الساحرات اللاتى يسكنّ القلب والوجدان فما بالك لو شاهدتهن متلبسات بالغناء.
الموسيقى هى أم الفنون، وفى المزاج الشرقى تمتزج الموسيقى بالغناء ليصبحا هما روح الفن.
فى مصر نغنى عندما نحب، وعندما نعمل، وعندما نلهو، وفى اليقظة وفى المنام، نواصل الغناء، من النادر أن تعثر على مواطن لم يحاول يوما الغناء، ولو فى الحمام، الغناء من الممكن أن تراه وهو يشكل البنية التحتية لكل الفنون، السينما المصرية لو حللتها (جينيا) لاكتشفت أنها امتداد للأسطوانة، نطقت السينما المصرية لكى تغنى، من النادر أن تعثر على فيلم قديم بلا أغنية ترددها البطلة، لو كانت مطربة، أو يستخدم المخرج الدوبلاج الصوتى لمطربة محترفة لو لم تكن البطلة من قبيلة (يا ليل يا عين).
كل المطربين والمطربات توجهوا للسينما أو فى الحقيقة توجهت إليهم السينما لكى تطعم نفسها بالأغنية، بل حتى الملحنين أمثال رياض السنباطى ومحمد الموجى ومنير مراد جربوا حظهم فى الغناء على الشاشة، وأزيدكم من الشعر بيتا وأقول لكم إن الشيخ زكريا أحمد لعب دورا رئيسيا فى فيلم «أنشودة الفؤاد» أمام المطربة نادرة، وهو أول شرير بالملامح التقليدية حيث الحواجب الكثيفة والنظرة الحادة.
ولا نزال نعيش على ثراثنا المسرحى القديم المرصع بالغناء أوبريتات سيد درويش والتى شارك فى كتابتها بديع خيرى وبيرم التونسى ويونس القاضى، وفى النهاية لو أردت أن تُمسك بكل هذه الفنون ستجد أن عمقها هو الإيقاع فهو رو ح الموسيقى. (احذر منه إنه لا يحب الموسيقى) واحدة من ومضات شكسبير فى «يوليوس قيصر» التى من الممكن أن تستعيدها لتكتشف خطورة أن تعرف إنسانا لا تسكنه الموسيقى.
أستاذنا الكبير حلمى التونى استطاع أن يمنح لوحاته أنغاما عذبة، وكثيرا ما يطل على الأغنية بزاوية خاصة قد تفتح له الأغنية بابا للتعبير التشكيلى، وقد يضيف هو على اللوحة زاوية أخرى. مثلا أم كلثوم تُشكل اهتماما خاصا لدى فناننا الكبير، «الأطلال» تسيطر على المشهد، وهذا المقطع «واثق الخطوة يمشى ملكا»، لم يجد غير أم كلثوم ليرسمها معبرة عن كلمات الشاعر إبراهيم ناجى.. أشعر أن أغنية «تلات سلامات» لمحمد قنديل التى كتبها مرسى جميل عزيز ولحنها محمود الشريف لها نصيب الأسد، هناك خمس لوحات هى تنويعات على نفس الأغنية «عيونك سود واقول مش سود عشان الناس تتوه عنك»، لعبت دورا كبيرا فى توجيه لمسات ريشة الفنان الكبير. لديك مثلا «م السيدة لسيدنا الحسين» و«حبيتك وبحبك وح احبك على طول» و«ما بيسألش عليّه أبدا»، من الواضح أن عبد المطلب محطة هامة على خريطة الأستاذ حلمى العاطفية. «جفنه علم الغزل» لعبد الوهاب وشعر بشارة الخورى ومقطع «ومن الحب ما قتل» كم كانت فيه نظرات عيون النساء هى القاتلة.
لو جردت الاغانى التى تناثرت فى معارض حلمى التونى، ستكشف أن الكلمات لا تعتبر ترجمة للوحة بقدر ما هى تكأة أو تلكيكة قرر من خلالها فناننا الكبير أن يروض الأغنية لتذهب إلى عالمه ويمنحها هو النغمة التى يريدها.
هل الأغنية، أم النساء اللاتى استطاع أن يستدعيهن من عالمه إلى اللوحة، الحس الشعبى يكسب بصوت عبد الغنى السيد وتلحين محمود الشريف وكلمات أبو السعود الإبيارى «يا بتاع التفاح لون تفاحك راح فى خدود ست الكل/ يابتاع الرمان رمانك غلبان بص علينا وطل»، التقط حلمى التونى الفكرة وأوصل المغزى ولكنه لم يتورط فى الإفصاح الحسى أكثر.
لوحات حلمى التونى هى عصير السحر والأنوثة، ومع كل لوحة أجدنى أقول له أعد يا أستاذ أعد، ورحل الفنان الكبير وليس أمامنا سوى استعادة لوحاته لنستعيده هو شخصيا إلينا!!.