أحاول من خلال هذه السلسلة من المقالات أن أسجل لكم ملامح وهيئة المصريين القدماء ومقارنتهم بالأجانب الذين عاشوا بجوار مصر، وذلك لكى أؤكد أن الحضارة المصرية ليست مرتبطة بأصحاب البشرة السمراء كما يحلو للبعض عن سوء قصد تزييف حضارتنا. ومرة أخرى أؤكد على أننا لا نتعصب للون ضد آخر، ولا يحط من قدر أي إنسان كان أن يكون لون بشرته أبيض أو أسود، لكننا ضد تزييف الحضارة، أي حضارة.
أما عن الآسيويين فترجع العلاقات بين مصر وبلاد الشام إلى عصور ما قبل التاريخ. وهناك أدلة وافرة من خلال بعض الأسماء تشير إلى وجود بعض الآسيويين في مصر بالمؤسسات العامة، ومنازل النبلاء، فعلى سبيل المثال تشير إحدى البرديات من الدولة الوسطى إلى أسماء 77 خادمًا للسيدة ثباثيش، من بينهم 48 خادمًا يحملون أسماء آسيوية. كما أن هناك بعض اللوحات من هذه الفترة تصور خدمًا آسيويين ولكن بملابس وأسماء مصرية، وقد تم إحضار هؤلاء إلى مصر كعبيد وأسرى من خلال الحملات العسكرية، بالإضافة إلى وجود بعض الآسيويين في مصر من خلال العلاقات التجارية والدبلوماسية.
وخلال نهاية الدولة الوسطى حدث تقارب كبير بين مصر وبلاد الشام، وذلك من خلال تأسيس نقطة هجرة كبرى بمنطقة تل الضبعة بشرق الدلتا، وتشير آثار تلك المدينة إلى عمليات تجارية داخل مستوطنة للأجانب. وكشفت الحفائر في تل الضبعة عن زيادة أعداد سكان المنطقة مع ازدياد التأثير السورى والفلسطينى بها خلال عصر الأسرة 12، ومع نهاية الأسرة أصبحت تل الضبعة عاصمة للهكسوس القادمين من آسيا، الذين حكموا مصر طيلة ثلاث أسرات.
وخلال الحملات العسكرية الكبيرة التي سادت بالدولة الحديثة تم إحضار عدد كبير من الآسيويين ليس من منطقة سوريا وفلسطين فقط بل من ميتانى وخيتا ليعملوا في مصر كعبيد، وهناك مجموعات أخرى وفدت إلى مصر من الأقاليم التابعة في صورة أتاوات وجزية أو كتجار وعمال وكتبة أحرار. وقد عمل العديد من هؤلاء الأسرى في إقطاعيات القصر الملكى والمعابد في الوقت الذي كُوفئ البعض منهم ليعمل في السلك العسكرى. أما الكتبة السوريون فقد عملوا ضمن الدوائر الحكومية، حيث تم استغلال مهاراتهم اللغوية في الاتصال الدبلوماسى والتجارى. وهو ما صعد بهم إلى مراكز عليا. وقد صُوّر الآسيويون في الفن المصرى القديم ببشرة صفراء وشعر مجعد أسود وربطة شعر تُربط عند الخلف ولهم لحى وشوارب عريضة مرتدين ملابس مزركشة.
وبعد ذلك نأتى إلى الليبيين الذين ظهروا على حدود مصر الغربية منذ بداية التاريخ، وقد كان ملوك مصر يعملون على إرسال حملات تأديبية ضدهم لردعهم وصدهم عن التوغل داخل الأراضى المصرية. ومع ذلك لم ترد أسماء القبائل الليبية إلا مع قدوم الدولة الحديثة. وقد تغلغل بعض أفراد تلك القبائل ضمن المجتمع المصرى حتى وصل البعض منهم إلى بلاط إخناتون إما كحرس أو جند. وخلال الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين عُرفت القبائل الليبية باسم «التحنو»، وأصبحت أحد الأقوام الأربعة الأساسية المكونة لشعوب الأرض في مفهوم العالم عند المصرى القديم. وقد ذكرت النصوص المصرية مجموعتين أساسيتين من القبائل الليبية، وهما المشوش والليبو، كما أظهرت المناظر المصرية وجود فروق بسيطة في أشكال وملامح المجموعتين، مما يشير إلى وجود فارق حضارى بينهما. وخلال عصر الرعامسة كان الزحف الليبى على منطقة غرب الدلتا من أهم المشاكل التي واجهت الملوك، الأمر الذي استدعى القيام بالعديد من الحملات العسكرية لتأديبهم. وتذكر سجلات تلك الحملات العودة بالعديد من الغنائم في صورة ماشية وخراف، والتى تعد من العناصر الأساسية للمجتمع الليبى الرعوى. وخلال العصر المتأخر قامت تلك القبائل بالاستقرار عند الحدود الغربية وتسلل أفرادها للعمل كجنود مأجورين في الجيش المصرى. وأخذ عدد هؤلاء الجند في الازدياد حتى اتخذ بعض الملوك منهم حرسه وبعض موظفى البلاط. ومهّد هؤلاء الطريق لأبناء جلدتهم، خصوصًا من قوم المشوش للحضور والإقامة في مصر في جماعات بطول البلاد وعرضها. وهكذا حصلت تلك الشعوب المقيمة في ليبيا بطريق السلم على ما لم تستطع الحصول عليه بطريق الحرب، وأصبح للكثير من زعمائهم مكانة مرموقة. ومن بين هؤلاء ظهر زعيم ليبى الأصل يدعى شاشانق، والذى تقلد منصبًا كهنوتيًا كبيرًا، فهو أحد كهنة المعبود حرى شف رب أهناسيا، كما مد سطوته وأصبح رئيس الحامية الحربية الليبية في المنطقة، وبهذا قبض على السلطتين الدينية والعسكرية في يديه. وما إن شعر بضعف الملك وموته حتى صعد إلى السلطة واستولى على العرش معلنًا نفسه ملكًا على مصر ومؤسسًا لأسرة جديدة ذات أصل ليبى. وأقام عاصمته بمدينة تانيس. وقد صور الفن المصرى القديم الأقوام الليبية ببشرة فاتحة مزينة بوشم هندسى الشكل، وشعر مجعد ذى ضفائر على أحد الجوانب، بالإضافة إلى ريشة نعام مثبته على الرأس. وارتدى الليبيون ملابس من جلد الحيوان، وأردية بها شعر البقر.
وقد صور ملوك الفراعنة الأقوام الأجنبية على شكل أقواس يطأ الملك قدميه عليها في دلالة على السيطرة والغلبة عليهم. ومن أشهر تلك التماثيل قاعدة تمثال الملك زوسر من الأسرة الثالثة بالمتحف المصرى والمصنوع من الحجر الجيرى، حيث تظهر قدما الملك واطئة على تسعة أقواس رمز الأعداء التقليدية لمصر، وكان رقم 9 دليلًا على مضاعفة رقم الكثرة 3، أي دلالة على سيطرة الملك على جميع أعدائه وأعداء البلاد، كما ظهر من قبله تمثال للملك سخم من السشت يرجع لعصر الأسرة الثانية بالمتحف المصرى، يظهر الملك جالسًا على الكرسى مرتديًا عباءة طويلة والتاج الأبيض، وعلى قاعدة التمثال تظهر مجموعة من الأسرى، بالإضافة إلى ذكر الأعداء والأسرى والذين بلغ عددهم 47209 وهو عدد مبالغ فيه!
وقد شنَّ ملوك الدولة القديمة بمختلف أسراتها مجموعة من الحملات التأديبية للحدود الغربية والجنوبية لضبط الأوضاع والسيطرة على قبائل الليبيين والنوبيين، فخلال الأسرة الرابعة نجح الملك سنفرو في القيام بحملات عسكرية من أجل توسيع الحدود المصرية. وقد استطعنا التعرف على أهم أحداث عصر سنفرو من خلال حجر باليرمو، حيث قُسم الحجر إلى صفوف، كل واحد فيها يخص ملكًا معينًا، وتلك الصفوف قُسمت إلى سنوات وتضم كل سنة أهم الأحداث التي تمت خلالها. وأسفل كل سنة يوجد تسجيل لمنسوب النيل، وللأسف لم يتبق من هذا الحجر سوى القليل، لذا فإن معظم أحداث الملوك أصبحت مجهولة بالنسبة لنا. ولحسن الحظ أن الأجزاء التي تخص الملك سنفرو مازالت باقية. وهى تعطى لنا لمحة لمجموعة من التفاصيل لحكم سنفرو، ففى العام الـ13 قام الملك بحملة عسكرية إلى الجنوب، وأحضر من هناك نحو 7000 أسير و2200 من الماشية، أما في العام الـ18 فقد قام الملك بحملة إلى الحدود الغربية عند ليبيا، ومن هناك استطاع إحضار نحو 1100 أسير و1300 رأس من الماشية.
ومن أجل حماية الحدود المصرية من أعدائها قام سنفرو ببناء سلسلة من الحصون بالجنوب والشمال، وتوجد بقايا المدينة من الدولة القديمة بمنطقة بنى حسن بشمال النوبة وتعود لعصر سنفرو.
وقد صوَّر الفن المصرى القديم فكرة قيام الملك المصرى، وهو يقمع أعداءه أحد القوالب الفنية التقليدية، والتى استمرت على مدار التاريخ المصرى القديم. فهناك نقشان من وادى مغارة بسيناء من الحجر الرملى الأحمر، كلاهما محفوظ بالمتحف المصرى، يشيران إلى تواجد عسكرى مصرى بالشمال، يمثلان الملك سنفرو، وهو يقمع أحد الأعداء، حيث يظهر الملك مرتديًا النقبة القصيرة، رافعًا ذراعه اليمنى يقبض على مقمعته، وبينما يمسك بشعر أحد أعدائه بيده اليسرى وهو راكع على الأرض يرفع إحدى ذراعيه في محاولة لاستعطاف الملك وطلب الرحمة وينظر إليها في ذلٍّ ومهانة.
أما في عصر الملك ساحورع من الأسرة الخامسة فنعرف من بقايا النقوش التي كانت تغطى جدران معبدى الهرم والطريق الصاعد الكثير من نشاطاته العسكرية. إذ تعرضت مصر في أيامه إلى غزو من ناحية الغرب عندما جاءت بعض القبائل الليبية ومعها زعمائها ونساؤهم وحيواناتهم ليهاجموا الدلتا ويستقروا في وادى النيل إلا أن الملك ساحورع قد نجح في ضربهم وطردهم حتى الحدود ومع نهاية الدولة القديمة تم تسخير أسرى الحرب من الأجانب في الأعمال الدونية المختلفة، كما اشترك مجموعة من الأجانب كمرتزقة في الجيش المصرى مثلهم مثل جماعات الـ(مجاى) النوبية.
أما خلال الدولة الوسطى فقد استمر ملوكها في الحفاظ على حدود مصر الشرقية والغربية والجنوبية من غارات قبائلها التي كانت ترى في مصر الواحة التي تنعم بالخير والرفاه، فقد قاد كل من أمنمحات الأول وسنوسرت الأول وسنوسرت الثالث العديد من الحروب لتأديب أعداء مصر من أجل الحفاظ على الاستقرار وإحضار العديد من الأسرى ليعملوا كعبيد في مصر، حيث عمل البعض منهم كخدم في المعابد أو الحصون في حين أن البعض الآخر كان يعمل لدى بعض الأفراد كعبيد لهم، وعلى سبيل المثال نعرف المزارع حقا نخت الذي أحضر لزوجته عبدا من بلاد الشرق الأدنى. ومع ازدهار الدولة المصرية في الدولة الوسطى أصبحت لها علاقات تجارية مع بلاد الشام مثلما كان بالدولة القديمة، وهو ما دفع بعض الجماعات لزيادة مصر في زيارات ودية من أشهرها ما صور في مقبرة خنوم حوتب، حيث تظهر مجموعة من الأشخاص بملامح وملابس غير مصرية، ويتكون المنظر من 8 رجال و4 سيدات و3 أطفال. وعلى رأس هذه الجماعة شيخ اسمه (أبشا) الذي صور وهو يقود تيسا أليفا، ويعتقد البعض أن اسم (أبشا) هو سيدنا إبراهيم!
ومع ضعف الإدارة في نهاية الدولة الوسطى بدأ الأعداء في سوريا وفلسطين وفى الجنوب في الظهور بوفرة، وقد ظهر في تلك الفترة عدد غير قليل من الدمى والأوانى كُتبت عليها تعاويذ سحرية! وهنا نعرض مثالًا لها ما هو مكتوب على إحدى الدمى!! باكويتا لمسمى جاى حاكم أباتس بين أماسى وجميع حلفائه الذين معه وجميع رجالهم الأقوياء وجميع أصدقائهم وأتباعهم وكل من تحثه نفسه على الثورة أو التآمر والذين يحاربون أو يفكرون في الحرب أو الذين يفكرون في الخروج عن الطاعة في جميع تلك البلاد.
وإذا تأملنا تلك المجموعة لوجدنا أن بين أصحابها كثيرًا من أمراء الجنوب وأمراء الإمارات السورية أسماء أصحابها أحيانًا سامية وأحيانًا غير مصرية، ونعرف من بين تلك البلاد التي ذُكرت على هذه الدمى أسماء جنيل وعسقلان ويافا، كما ظهرت فيها لأول مرة كتابة اسم أورشاليم (أو شاميم)، وبدأت مصر تدخل في الفترة التي نطلق عليها عصر الانتقال الثانى وحكمت سوبك نفرو سيدة في آخر الأسرة الـ13، ودخلت مصر لأول مرة تحت الاحتلال الذي نعرفه باسم الهكسوس، وسوف نجد شجاعة الجندى المصرى في التغلب على العدو وطرده، بالإضافة إلى أننا تعلمنا الكثير من هذا الغزو الهكسوسى