مازلنا نتحدث عن العمال بناة الأهرام نثبت أن الهرم كان المشروع القومى لمصر والمصريين، وأن العمال كانوا ينقسمون لفرق، وعاشوا في منطقة الجيزة داخل منازل أو عنابر، وكانوا يأكلون اللحوم يوميًا والمرسلة من العائلات الكبيرة في الدلتا والصعيد. كانت هذه العنابر نصف مغطاة بأسقف خفيفة من أجل توفير مظلة وبعض الضوء، بينما كانت تخلو هذه العنابر من المواقد. لقد تم العثور على بقايا أربعة أنواع من الحيوانات، بالإضافة إلى أنواع عديدة من الطيور ومن الأسماك النيلية، ومن أشهرها البلطى، إضافة إلى أنواع أخرى كانت تجفف بالملح على طريقة الفسيخ المعروف إلى يومنا هذا. وكان من الغريب الكشف عن بقايا عظام الخنازير، حيث المعروف كره الفراعنة لأكل لحم الخنزير، بل وتحريم لحمه على الأقل بالنسبة للملوك والطبقة النبيلة!، مما قد يشير إلى أن لحم الخنزير كان يستهلك بين طبقات العمال أو الطبقات الفقيرة!، وقد عثر الأثرى الأمريكى، مارك لينر، على أدلة كل ما سبق خلال الحفائر التي قام بها في المنطقة الإدارية لبناة الأهرامات، والتى تقع في الشرق مباشرة من مقابر العمال التي قمت بالكشف عنها. عثر لينر على مبان أخرى جدارية متوازية، وذلك غير المبانى والعنابر التي عاش فيها العمال. ويعتقد أن تلك المبانى استعملت لتجفيف الحبوب، وكذلك عثر على كمية كبيرة من البذور. ولذلك يظن أن هذه المنطقة كانت قاعة مستخدمة لتناول الطعام في الصباح قبل التوجه إلى العمل، وكذلك للعشاء في المساء، وذلك للعمال الذين يقيمون بصفة مؤقتة داخل هذه المعسكرات. وأنا أعتقد أن هناك ضرورة أن نقارن بين حياة العمال الحاليين والعمال في عصر الأهرامات.
إننى أعتقد أن العمال بناة الأهرامات، الذين عملوا داخل محاجر الحجر الجيرى المحلى الخاص بالملك خوفو وخفرع ومنكاورع في الجيزة، كانوا يعملون قبيل شروق الشمس وبعد شروق الشمس بحوالى ٣ ساعات يأخذون راحة يتناولون فيها طعام الإفطار. أما المكان الذي عثر عليه داخل منطقة الإدارة، فهو جزء خاص فقط بوجبة العشاء. وقد عثر مارك لينر أيضًا عند الشارع الرئيسى من القاعة ذات الأعمدة داخل مدينة العمال على منزل كبير يبلغ اتساعه ثلاثة عنابر، وكان يوجد به مخبزان ملحقان بالجانب الشرقى، حيث يبدو أن تلك المنطقة كانت هي المخابز الرئيسية التي توفر الخبز للعمال.
وقد عثر لينر كذلك على أماكن استعملت كنقاط حراسة، وعثر على بوابة لمنزل الشارع الشمالى بالموقع طولها حوالى عشرة أمتار شمالًا وجنوبًا، وتقع مباشرة جنوب المدخل المؤدى إلى مجموعة العنابر، والواقعة بين العنبر الأول والثانى، وهناك باب يفتح على الشارع الشمالى ويقع الركن الشمالى الشرقى. ويبدو أن المنطقة كانت مخصصة للتخزين، حيث عثر على كميات من الأوانى الفخارية، منها قوالب لصنع الخبز وأخرى لشرب البيرة والتخزين. بالإضافة إلى أوان أخرى لتناول الطعام. وعثر أيضًا على بوابة الشارع الرئيسى بالمنطقة الخاصة بالمعسكر. وبوابة أخرى بالشارع الجنوبى. يؤكد ما تم العثور عليه أن العمال الذين عاشوا خلال عصر بناة الأهرامات كانوا يقومون بإعداد ووضع الخبز داخل قدور على شكل الجرس لصناعة الخبز الذي يسمى بلغتهم «بيدجا».
ومن المعروف من خلال دراسة المناظر الممثلة على جدران مقابر الدولة القديمة أن المصريين القدماء كانوا يستخدمون أوانى فخارية يتم تسخينها بوضعها فوق نيران مفتوحة، ونعرف أن العمال كانوا يقومون بوضع تلك الأوانى، أو القدور، داخل حفر التخمير في الأرض، ثم تملأ القدور بالعجينة التي تؤخذ من أوعية ضخمة للعجن. بعد ذلك تتم تغطية قدور الخبز ورصها بشكل هرمى مفرغ يسمح بوصول النيران لها بالتساوى لاستكمال عملية النضج. لقد استخدم المصريون القدماء قوالب صنع الخبز هذه منذ عصر الأسرة الأولى على أقل تقدير، واستمروا في استخدامها حتى نهاية الدولة القديمة. ويرى البعض أن القدور التي استخدمت لصنع الخبز كانت تستخدم في مناسبات خاصة، مثل الاحتفالات أثناء تقديم القرابين داخل المعابد. وقد عثر على مكان مواقد أو أفران الخبز بالركن الجنوبى الشرقى. وعثر على عدد من قدور «بيدجا»، منها السليمة والمكسورة وعدد من صوانى الخبز المسطحة. وأسفل كل مخبز عثر على سلسلة من الفتحات الدائرية داخل منطقة منخفضة بطول الجدار الشرقى.
قامت مؤسسة الناشيونال جيوغرافيك عام ١٩٩٢ ببناء محاكاة لمخبز لإنتاج الخبز المصرى القديم بالهرم، متبعين الأدلة التي تم اكتشافها بالموقع، مع استخدام دقيق الحنطة ودقيق القمح. وقد نفذ ذلك بالاعتماد على مناظر تصنيع الخبز في الدولة القديمة المصورة على جدران المقابر. ونحن نعرف أن المصريين في عصر الأهرامات كانوا يستخدمون القمح في صنع الخبز، الذي يتميز باحتوائه على نسبة عالية من الجلوتين، والذى يتيح الفرصة لوجود جيوب هوائية حتى تتمدد العجينة أثناء الخبز، مما يجعل قلب الخبز خفيفًا، بينما يجعل القشرة الخارجية للرغيف هشة. وطبقا للأدلة التي عثر عليها من المصادر العلمية، فالحبوب الغذائية المصرية الأولية كانت من الشعير الذي لا يحتوى على الجلوتين، أما الحنطة فتحتوى على نسبة ضئيلة من الجلوتين هذا، ويدل حجم قوالب الخبز على أن هذا الخبز قد أضيفت له الخميرة التي يتم إنتاجها في قوالب إنتاج الخبز.
وقد جاء أحد أفراد الناشيونال جيوغرافيك الذين قاموا بتقليد صناعة الخبز الفرعونى، وذلك بإحضار دقيق عبارة عن خليط من الحنطة والشعير، حيث قام بمعالجته باستخدام الأشعة، بهدف قتل أي خميرة حديثة، وقام بإحضار طبق مملوء بالدقيق والماء واستطاع بنجاح أن يستخلص خميرة قديمة وهو جالس في شرفة غرفته بمينا هاوس. وعموما تم إنتاج ذلك النوع من الخبز المنتشر في الصعيد، وهو شبيه بالعيش الذي يطلق عليه العيش الشمسى.
وقد عثر في الركن الشمالى الغربى على سياج ضخم مزدوج الجدران ومبنى ملكى ضخم كان مخصصًا للاستخدام كمخازن ملحق بها مبنى إدارى، حيث تم العثور على ١٩٥ ختمًا وصناديق داخلها أختام وصلت أعدادها إلى ٤٧٠ ختمًا، مما يدل على أن نشاط المبنى إدارى. وعثر في الجانب الشرقى من المبنى الإدارى على أرض واسعة كانت تحيط بصوامع تخزين ضخمة أطلق لينر عليها اسم المستودع الخاص بالملك، خاصة لوجود صوامع كبيرة لتخزين الحبوب. لابد أن يكون هذا المبنى قد تم تشييده بأوامر من «رئيس كل أعمال الملك»- لقب المهندس الملكى- لخدمة العمال. وعثر على موقع آخر أطلق عليه اسم المدينة الشرقية يحتوى على جدران ومجموعة من الغرف الصغيرة بداخلها صناديق بها طمى، بالإضافة إلى مخازن بشكل دائرى ومخازن للحبوب. وكشف أيضًا عن مواقد داخل المنطقة السكنية. وتشير هذه الأدلة إلى أن سكان تلك الوحدات من العمال كانوا يقومون بالطبخ وإعداد الوجبات لأنفسهم داخل المدينة السكنية.
وهناك أيضًا المدينة الغربية التي كان يقيم فيها طبقة أخرى من العاملين في بناء الهرم، وهم الذين دفنوا في الجبانة العلوية. ولذلك لنا أن نتصور الآن أن الحيط الحجرى الضخم الذي يطلق عليه حيط الغراب قد تم بناؤه لكى يفصل بين المنطقة التي يعيش فيها العمال وبين الأحياء الملكية التي كان يوجد فيها قصر الملك.
كان العمال يعيشون داخل عنابر وبجوار كل مجموعة من العنابر كان يوجد منزل كبير يخص رئيس العمال. وبالقرب من منطقة العنابر عثر على بقايا عظام حيوانية، مما يشير إلى أن هذه الحيوانات كانت تذبح هناك بمجرد وصولها إلى الموقع. وكانت تتم عملية الذبح في الشوارع العريضة المواجهة لمنازل العمال، وذلك للعثور على قناة تصريف في الشارع الرئيسى للموقع لتصريف الدماء التي تنتج عن عملية ذبح الحيوانات والماء المستخدم في التنظيف. وقد عثر على عشرات من المجارش داخل المدينة الشرقية، مما يدل على أن سكان هذه المدينة كانوا يقومون بطحن الحبوب المخزنة داخل الصوامع من أجل الحصول على الدقيق المطلوب لتشغيل المخابز. ونعتقد الآن أن مدينة العمال كانت في البداية تشغل مساحة تسعة أفدنة فقط، ثم توسعت خلال الأسرة الرابعة لتصل إلى ٣٠ فدانًا، وتضم العديد من المبانى الضخمة. ومما يؤكد ذلك أننا خلال تنفيذ مشروع الصرف الصحى بنزلة السمان عثر داخل القرية على أدلة تشير إلى اتساع مدينة العمال.
تؤكد الاكتشافات التي قمت بها أن مقابر العمال الموجودة بالجبانة السفلى كانت وقفًا على العمال الذين ينقلون الأحجار. بينما خصصت مقابر الجبانة العليا للفنانين من النحاتين وأصحاب الحرف كالنجارين والمشرفين. بينما تقع المدينة العمالية ومنطقة الإدارة في الشرق من المقابر.
وتشير هذه الاكتشافات إلى وجود مدن تخص العمال الذين عملوا في بناء الهرم، وأن عنابر العمال كانت عبارة عن مبان صغيرة ينام فيها العمال ويجاورهم منازل للمشرفين عليهم. وقد عثر أيضًا على أدلة لوجود مطابخ، ومصانع لتجفيف الأسماك: وأخرى للحوم. وهذه أدلة مهمة تدحض الاعتقاد الخاطئ بأن العمال بناة الأهرام كانوا عبيدًا يأكلون الثوم والبصل والخبز ويشربون البيرة فقط.
ومن خلال كل الدراسات الأثرية التي قمنا بها أستطيع القول بأن عدد العمال كان عشرة آلاف عامل، وإن عدد هؤلاء العمال قد يزيد خلال موسم الفيضان، نظرًا لأن الفلاحين في القرى تتوقف أعمالهم خلال هذا الموسم الذي يمتد شهورًا.
كل هذه الاكتشافات تؤكد لنا أن بناة الأهرام لم يكونوا عبيدًا لأنهم لو كانوا عبيدًا لما دفنوا داخل مقابر بجوار الهرم، أعدوها للعالم الآخر. وهذا دليل على اهتمام الملوك بالعمال الذين يقومون بالعمل بالمشروع القومى لمصر وهو بناء الهرم.