بقلم : زاهي حواس
سافرت إلى إيطاليا منذ أيام للحصول على جائزة تقدمها جامعة مدينة بنيفينتو، التى تبعد عن روما مسافة ٢١٠ كم تقطعها السيارة فى حوالى الساعتين، تستمتع خلالها بطبيعة الجنوب الإيطالى الخلاب الذى يحيطه الجمال من كل جانب. أما عن الجائزة فهى تمنح باسم الإمبراطور الرومانى الشهير تراجان، وقد منحت الجائزة من قبل لخمسة من مشاهير الأدب والفن فى إيطاليا، وهذه هى المرة الأولى التى تمنح الجائزة فيها لشخصية عربية. يعود تاريخ بنيفينتو إلى عصر الإغريق، والمدهش أن الإلهة المصرية إيزيس كانت تعبد فى المدينة خلال العصر الرومانى وقد بنى لها معبد ضخم بالمدينة عثر بين أطلالة على مسلتين ارتفاع الواحدة حوالى ستة أمتار. إن التأثير الحضارى المصرى فى حضارات العالم القديم والحديث جد مذهل ولا يزال يحتاج إلى كثير من البحث والدراسة للإلمام بكل جوانبه والبناء عليها من جديد.
بعد وصولى إلى المدينة وفى اليوم التالى وصل إلى الفندق مندوب الجامعة وذلك لكى أقابل رئيس الجامعة وكذلك الشخص الذى أنشأ هذه الجامعة، ومن الغريب أن بنيفينتو لا يتعدى تعداد سكانها ٦٠ ألف نسمة فقط ومع ذلك يوجد بها جامعتان، ويوجد بالمدينة كل ما يحتاجه سكانها، وهناك شارع رئيسى خال من المواصلات يقع خلف قوس نصر الإمبراطور تراجان به متاجر تبيع أشهر الماركات العالمية فى كل شىء يمكن أن تتخيله.
عند وصولى إلى مدخل الجامعة فوجئت أن جميع أساتذة الجامعة وبعض الطلاب يقفون على السلالم وأمامهم رئيس الجامعة لاستقبالى! وقفت أمامهم أشكرهم، وبعد ذلك وجدت السلام الجمهورى المصرى يعزف وبعد ذلك السلام الجمهورى الإيطالى فى سابقة لم أشهدها من قبل!، وبعد ذلك دعيت إلى اجتماع داخل الجامعة حيث قدم لى رئيس الجامعة كتابا عن المدينة وألقى كلمة ترحيب بى وتعريف بالجامعة والمدينة ككل. وبالتالى قمت بإلقاء كلمة أعربت فيها عن سعادتى بوجودى هناك، وقد تذكرت أننى دعيت لزيارة هذه الجامعة من قبل فى عام ٢٠١٧ حيث ألقيت هناك محاضرة عن الملكة كليوباترا حضرها طلاب الجامعة بالإضافة إلى العديد من المواطنين.
فى المساء قمت بجولة لزيارة معالم المدينة وبدأنا بمتحف سانيو ويعود تاريخه إلى عام ١٨٧٣ ويضم هذا المتحف آثارا تعود إلى ما قبل التاريخ وحتى آثار العصر الحديث، بالإضافة إلى تماثيل يونانية وأخرى تصور المصارعين فى العصر الرومانى، وتوابيت جميلة تعود إلى العصر الرومانى وأخيرا توجد المسلة الرومانية ويتم عرضها داخل القاعة التى يوجد بها تماثيل للإلهة المصرية والتى يوجد أغلبها فى متحف أركوس، وقد يعتقد البعض أن المسلة والتماثيل جاءت إلى المدينة من مصر ولكن الغريب أن كل هذا عثر عليه داخل المدينة وأن المسلة يعتقد أنها كانت داخل معبد إيزيس. وبعد ذلك قمت بزيارة كنيسة سانتا سوفيه والتى أقامها الملك أرشى الثانى وقد تم تسجيل الكنيسة تحت حماية اليونسكو وكانت قد دمرت عام ٩٨٦ الميلادى بعد زلزال مدمر ضرب المدينة، وتم بناؤها مرة ثانية فى القرن الثانى عشر الميلادى.
وتوجد أهم الآثار المصرية داخل متحف أركوس. وعثر عليها داخل معبد بنيفينتو وتعود أهمها للإلهة إيزيس التى يطلق عليها اسم سيدة بنيفينتو. وقد بنى معبدها فى عام ٨٩ ميلادية. وقد تم استيراد بعض مواد البناء من مصر وأهم ما عثر عليه طريق مزين بتماثيل أبو الهول والإله حورس فى شكل الصقر ومن العجيب أن شامبليون هو نفسه الذى قام بترجمة النصوص الهيروغليفية الموجودة على المسلتين اللتين يشير وجودهما إلى ما كان عليه معبد الإلهة إيزيس بنيفينتو من ثراء وفخامة. كانت ترافقنى فى الجولة سيدة تعمل مرشدة سياحية ومعنا العديد من أساتذة الجامعة. وبعد ذلك جلسنا على مقهى جميل لشرب القهوة. وفى المساء توجهنا إلى دعوة أقامها مالك الجامعة وهو من أثرياء المدينة وله الفضل الكبير فى أن تصبح هذه الجامعة من أهم جامعات إيطاليا.
وفى اليوم التالى اتجهنا إلى مسرح أثرى رومانى رائع لنيل الجائزة والاحتفال بتخريج دفعة عام ٢٠٢٤ ويصل عددهم إلى حوالى ٣٥٠ طالبا فى مختلف التخصصات!، وقد وجدت حين وصولى أن الأساتذة يجلسون على المنصة وهم يلبسون ملابس الجامعة الرسمية، وداخل المسرح الرومانى كان الطلاب أيضًا يرتدون ملابس التخرج بالإضافة إلى وجود أسر الطلاب بحيث امتلأ المسرح عن آخره. وقد جلست بجوار رئيس الجامعة وبعد لحظة هطلت الأمطار بشدة ولم تنفع الشمسية ولذلك اتجهنا جميعا لكى نحتمى أسفل أحد الأسقف المجاورة واعتقد البعض أن الاحتفال لن يتم وفى لحظة وبعد أكثر من ٢٠ دقيقة وقفت الأمطار تماما وبدأ الحفل ونزل الطلاب إلى المسرح وبعد ذلك قام مقدم البرنامج بتقديم رئيس الجامعة لكى يلقى كلمته وقام بالترحيب بالطلاب ورحب بوجودى، وأعلن أنه تم اختيارى هذا العام لكى أنال جائزة تراجان وبعد ذلك قام بتقليدى الجائزة وهى عبارة عن صور مرسومة على لوح زجاجى للإمبراطور تراجان مع الآلهة الرومانية. وأعلن رئيس الجامعة أن الجامعة قررت أن تقوم شركة بعمل صورة طبق الأصل من المسلة بطول ٦ م من الخشب، وأشار إلى وجود المسلة أمام جميع الحاضرين وقال إن هذه المسألة سوف تهدى إلى دكتور زاهى حواس عرفانا بما قدمه للبشرية من خدمات.
واتفق بعد ذلك على أن ترسل هذه المسلة إلى السفير الإيطالى بالقاهرة وسيقوم بدوره بتسليمى المسلة فى احتفال آخر. أعتقد أن المكان الوحيد المناسب لوضع هذه المسلة هو حديقة منزلى. أما المسلة الحقيقية فهى مقامة فى ميدان بساحة بنيفينتو وهى مقطوعة من الجرانيت الأحمر. ولذلك يجب أن نسأل لماذا توجد مسلة بالمدينة؟.. فى الحقيقة لا أحد يعلم أسباب وجود مسلات مثل هذه بمدن مثل بنيفينتو. ونعرف أن روما يوجد بها تسع مسلات وواحدة فى أورفيتو. وقد ظل وجود هذه المسألة غامضا لمدة طويلة حوالى ١٨٠٠ عام ولم يكن يعرف أحد من أين أتت وماذا تعنى الكتابة الهيروغليفية المنقوشة على الوجوه الأربعة، ولذلك تم وضع المسلتين أمام الكاتدرائية وقام عالم الآثار سيرجيو مومرتنى بنقل هذه المسألة إلى متحف سانو وفى نهاية القرن التاسع عشر فى عام ١٨٧٢ تم نقلها بشكل نهائى إلى ساحة بنفينتو وظلت النقوش الهيروغليفية غامضة حتى تمكن شامبليون من حل رموز الكتابة الهيروغليفية، وقد حاول العديد من العلماء ترجمة الهيروغليفية الموجودة على المسلة حتى قام عالم الآثار الإيطالى أرنستو شياباريلى عام ١٨٩٣ بنشر الترجمة بالإيطالية، وقد اكتشف من الترجمة أن الإمبراطور دينى قد بنى داخل المدينة معبدًا للإله إيزيس ووضع تمثال للإمبراطور ديميان داخل المعبد وهو فى الثامنة من عمره مرتديًا ملابس كاهن الإلهة إيزيس. وكان المعبد الذى تم بناؤه فى هذه المدينة بين عامى ٨٨١ ٨٩١ ميلاديا فخمًا وفريدًا من نوعه على الطراز الفرعونى فى أوروبا. أن الكتابة الهيروغليفية التى على المسلة تعظم الإمبراطور دوميتيان وكذلك الإلهة إيزيس كالتالى:
«إيزيس الأم الإلهة العظيمة، نجمة الصباح، ملكة الآلهة عن الشمس سيدة السماء، ابنك الشمس، سيدة بينيفينتو». وتم نحت اسم الإمبراطور ديميان على المسلة عدة مرات بالكتابة الهيروغليفية ويقال إن الإلهة إيزيس استمرت فى إشعاع تدفقاتها السحرية من المسلات لعدة قرون مما أدى فى النهاية إلى تحويل مدينة بنيفينتو إلى مدينة ساحرة.
ألقيت كلمة قصيرة خلال حفل تكريمى. وقلت إننى فخور جدا وأنا أمشى فى شوارع بنيفينتو، وأشم رائحة التاريخ، وأشاهد إيزيس المصرية ترفرف بأجنحتها على جميع أهالى المدينة. التحقت بعد حصولى على الثانوية العامة بكلية الحقوق بالإسكندرية، واشتريت كتابين وذهبت إلى المدينة الجامعية أتصفح الكتب فوجدت أننى لا يمكن أنا أستمر فى دراسة الحقوق!، والتحقت بكلية الآداب ووجدت أن هناك قسمًا للآثار، ولم أكن طالبًا متفوقًا، وبعدما تخرجت حصلت على وظيفة حكومية فى مصلحة الآثار ولم يعجبنى أن أرى الأثريين وهم يحاولون النيل من بعضهم البعض، لذلك حاولت أن التحق بالعمل الدبلوماسى بالخارجية وفشلت!، وعدت لأجد رئيس الآثار قد أصدر قرار لإلحاقى بالحفائر. وذهبت وأنا فى شدة الضيق. وفى يوم عثر العمال على مقبرة وذهبت لكى أنظف المقبرة ووجدت فى المنتصف تمثالا لأفروديت إلهة الحب والجمال، وأنا أنظف التمثال قلت لنفسى الآن عثرت على حبى وشغفى وعشقت الآثار، ومن هذا العشق بدأت الدراسة وحصلت على درجة الدكتوراه. نصيحتى لكم أن تحبوا ما تعملون، إذا عشقت شيئًا صغيرًا يكبر ويصير مهمًا.