بقلم : زاهي حواس
من الاندثار إلى الازدهار.. البعد الحضارى للمملكة العربية السعودية، هذا هو عنوان الكتاب الذى ألفه الكاتب والصديق الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز.. فى هذا الكتاب يوثق الأمير سلطان بن سلمان تجربته التى بدأها منذ عقود مضت مع النهوض بالتراث الأثرى والمواقع الأثرية بصفة عامة بالمملكة العربية السعودية، وإحياء التراث العمرانى والحفاظ عليه بصفة خاصة. رحلة طويلة مضنية واجه خلالها الأمير سلطان العديد من الصعاب والتحديات، لعل أخطرها كان فى نظرة المجتمع للآثار والتراث، والتى كانت- كما يذكر فى كتابه- تنعكس فى تعاطى الهيئات والمؤسسات الحكومية مع قضايا التراث. وعلى الرغم من كل الصعاب والتحديات إلا أن الأمير سلطان بن سلمان ومعه كل من جندهم من كوادر وهامات كبيرة من المؤمنين بأهمية الحفاظ على التراث وإحيائه استطاعوا فى نهاية المطاف تحقيق الكثير من الإنجازات، بل إحداث طفرة حقيقية فى تطوير العمل الأثرى بالمملكة العربية السعودية وإنجاز الكثير من المشروعات والمبادرات التى حققت أكثر مما كان مخططًا لها.
ولعل الإنجاز الأكبر فى نظر الأمير سلطان بن سلمان هو تغير نظرة المجتمع للتراث والآثار من عدم الاكتراث وأحيانًا الاحتقار، إلى الاعتزاز والفخر بالتراث، ورقى الوعى الأثرى عند المواطن السعودى الذى أدرك أنه ما ممن سبيل للتطلع إلى المستقبل دون الحفاظ على الماضى ووعى التاريخ العظيم الذى سطرته المملكة العربية السعودية منذ لحظة نشأتها الأولى وإلى اليوم وما نشهده من طفرات فى كافة المجالات وعلى كل الأصعدة.
يبقى من أجمل ما قرأته فى هذا الكتاب الممتع حقًا تأكيد الأمير سلطان بن سلمان على أن اهتمامه بقضايا التراث العمرانى للمملكة جاء متأثرًا بما كان يراه من اهتمام والده الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - منذ أن كان أميرًا للرياض والمسؤول الأول عن تطوير الرياض. فيتذكر الأمير سلطان زياراته المتكررة مع والده إلى مناطق التراث وما لمسه منه من اهتمام بها؛ ولذلك يقول الأمير سلطان إنه لم يجد أى صعوبة فى إقناع والده وكان وقتها أميرًا للرياض بمشروع إحياء الدرعية القديمة، والذى كان بداية الانطلاقة الكبرى فى النهوض بالتراث الأثرى للمملكة العربية السعودية. ويؤكد الأمير سلطان بن سلمان أن تلك النهضة تعود أسبابها إلى دعم ومساندة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذى كان على حد وصف الأمير سلطان هو الداعم والسند لتلك النهضة العظيمة فى الحفاظ على آثار وتراث المملكة العربية السعودية.
قبل الحديث عن فصول هذا الكتاب المهم وما قدمه الأمير سلطان لبلده. أجد ضرورة أن أتحدث عنه كصديق؛ فلقد زرت المملكة وهو المسؤول الأول عن التراث، ومنذ اللقاء الأول لمست فيه عشقه لما يقوم به من عمل، إنسان متواضع مثقف يكفى حوار قصير معه لتدرك أنك تعرفه منذ زمن بعيد، يعرف كيف يكسب حب الناس، وكيف يتعامل مع من يعملون تحت قيادته لجعلهم يبذلون كل جهدهم وطاقاتهم فيما يؤدونه من عمل بحب وإخلاص. تجولت مع الأمير سلطان داخل جدة التاريخية وشاهدت ما يحدث من جهود عظيمة تمت لتحويل جدة إلى نموذج هام جدًا، ليس فقط للحفاظ على التراث وإنما إحياؤه وجعله فاعلًا مرة أخرى فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك من خلال ترميم المنازل القديمة وإعادة الحياة اليها وما كان يتم من صناعات تراثية بين جدرانها. كنا نسير معًا والأمير سلطان يشرح لى قصة ترميم كل منزل وخصائصه، وكيف كان وما صار إليه وكيف سيتم توظيفه! كان أهل جدة يستوقفونه لإلقاء التحية أو لسماع شكوى أو حتى فكرة أو اقتراح، وكان الأمير لا تفارق وجهه ابتسامة الرضا والهدوء.
وعندما قمت بزيارة الدرعية بصحبته، كان الأمير يشرح لى جهود الملك سلمان منذ أن كان أميرًا للرياض فى دعم كل مشروعات التراث ورغبة الملك سلمان بربط السعوديين بماضيهم والمناطق التراثية التى شهدت ميلاد الدولة السعودية الأولى، وكيف أنه كان دائمًا يقول ليس من المقبول أن يقرأ المواطن السعودى عن تاريخ وطنه فى كتب التاريخ فقط، بل يجب عليه أن يزور تلك الأماكن التاريخية التى شهدت ما يقرأ عنه فى الكتب من أحداث تاريخية. كنت أستمع باهتمام الأمير سلطان وهو يطلعنى على المبادرات والأفكار وكذلك الفعاليات الثقافية التى تم تنفيذها لتنمية الوعى الأثرى عند المواطن السعودى ودفعه ليكون عاملًا فاعلًا فى الحفاظ على التراث بل مشاركًا فى ترميمه وتنميته، وكانت البرامج والأفكار جد عظيمة، والتى شجعت الكثيرين على العودة وتعمير المساكن والحوانيت والورش بالمدن الثراثية القديمة، إيمانًا بأن البيوت والمساكن تنهار عندما يهجرها ساكنوها.
لقد شرفت باستضافة الأمير سلطان لى فى منزله البسيط الرائع الذى يقع فى حضن الطبيعة بجوار الطائف، وللأمير الفضل فى إحياء العمارة الطينية بالسعودية، وحكى لى قصته مع إحياء بيت نخيل العذيبات والذى كان مملوكًا للملك فيصل بن عبدالعزيز – رحمه الله – وقد استطاع إعادة بنائه وترميمه بالطين! وقد قص على الأمير كيف كان الناس وقتها يتعجبون مما يفعله ويعتقدون أنه يهدر الأمال على الأرض؟ بعدها تم تسجيل بيت نخيل العذيبات فى سجل التراث العمرانى، وبدأ الناس يهتمون بالعمارة الطينية المتكيفة مع البيئة والمناخ فى المملكة العربية السعودية، بل علمت أنه ومعه فريق متخصص من المعماريين والمرممين بل من شيوخ البنائين استطاعوا إنتاج قالب من الطين بمواصفات وقياسات عالية الجودة. وكما يذكر الأمير سلطان فى كتابه فلقد أصبح هناك بالمملكة مصنع لإنتاج ملايين الطوب الطينى وبمواصفات لا توجد مثيلاتها فى مكان آخر على الأرض. بقى أن نذكّر القارئ بأن الأمير هو أول رائد فضاء عربى يسافر إلى الفضاء وهو فى شرخ شبابه، وكان الملك فهد - رحمه الله - حريصًا على استقباله فى المطار لكونه نموذجًا رائعًا للتحدى للشباب العربى.
توطدت أواصر الصداقة التى أتشرف بها مع الأمير سلطان بن سلمان وحضرنا معًا الكثير من الفعاليات الثقافية والمحاضرات والمناقشات وجمعتنا مجالس الأدباء والمثقفين، وشاهدته وهو يحاضر ويناقش ويستمع جيدًا وبإنصات للجميع. ومن أهم الأحداث التى جمعتنا معًا مؤتمر علمى مهم عن الآثار، وقد دعانى سموه لإلقاء محاضرة، وقد دعى العديد من العلماء من أكثر من ١٥ دولة لإلقاء محاضرات عن التراث الأثرى السعودى وعن الاكتشافات التى تمت فى المملكة، والاهتمام الكبير بآثار ما قبل الإسلام والكشف عن آثار المملكة. إن هذه الاكتشافات الأثرية أثبتت أن المملكة العربية السعودية التى تشغل الجزء الأكبر من الجزيرة العربية يعود تاريخها إلى آلاف السنين فى العصور المعروفة باسم ما قبل التاريخ. وقد شاهدت خلال المؤتمر تكريم المواطنين الذين كانوا يحتفظون بآثار وقاموا عن وعى وإدراك بتسليمها إلى هيئة التراث، وذلك من خلال سياسة تحفيز المواطن لكى يعطى ما يملكه من آثار إلى هيئة التراث. وفى المقابل تتم مكافأة المواطن وتسليمه شهادة شكر وهذا دفع المواطنين ليعرفوا أن الآثار التى يعثر عليها هى ملك لتاريخ المملكة وأن هذه الآثار تسجل دور الجزيرة العربية على مر العصور منذ ما قبل الإسلام وحتى العصر الحديث.
إن ما تم فى السعودية من مشروعات ترميم وتطوير وحفائر علمية أثرية ومهرجانات ثقافية وكذلك بناء العديد من المتاحف إلى جانب المتحف الوطنى بالرياض هو طفرة بكل المقاييس فى العمل الأثرى، بعد أن كانت المواقع والمبانى التراثية تشهد إهمالًا أدى إلى اندثار كثير منها وإزالته ورافق ذلك على حد قوله، نظرة سلبية من المجتمع للتراث، ولذلك أطلق على كتابه هذا الاسم الجميل: «من الاندثار إلى الازدهار».
كتب الأمير فى كتابه أن اهتمامه بالتراث بدأ منذ الصغر؛ حيث كان يعيش فى منزل يحمل جزءًا من تراث بلادنا وتاريخنا، وكانت حياته والعائلة تتقاطع مع التاريخ والتراث بشكل يومى، سواء عن طريق تداول القصص فى أمسيات الصحراء أو التنقل بين مواقع التاريخ والآثار مع والده الملك سلمان - حفظه الله - كما كانت اللقاءات اليومية مع أناس كانت لهم علاقة بأحداث صنعت تاريخ بلاده أبلغ الأثر فى تشكيل وجدانه وإثارة اهتمامه البالغ بالتاريخ وبالتراث. يقول الأمير: «لقد صاحبنا إحساس بالتراث العمرانى خاصة منذ طفولتى، فكنت أزور أعمامى وعماتى بنات الملك عبدالعزيز وبعضًا من زوجاته، طيب الله ثراهم، فى بيوتهم التى بُنِى بعضها من الطين والحجر فى مدينة الرياض فى سن مبكرة. وأتنقل بين مدن وقرى المملكة وأزور المنازل والمواقع التاريخية، وخلال تلك الزيارات كنت أجد شيئًا ما يشير إلى العمارة التراثية ودورها كحافظة لتاريخ نشأة بلادنا ووجدتها الوطنية، يعد هذا الإحساس هو بداية علاقتى بالتراث.