كان حلمًا أن يكون لدينا متحف يوثق تاريخ واحدة من ملاحم وبطولات المصريين فى عصرهم الحديث، وهى بالطبع قناة السويس. كان لا بد من متحف خاص يحكى للأجيال القادمة ما حدث وكيف تم بناء القناة؟، وما الأدوات التى استُعملت فى البناء؟، وكذلك الفكرة نفسها كيف بدأت؟، وكيف جعلتها سواعد أجدادنا حقيقة؟. استطاع الفريق أسامة ربيع أن يحول حلم وجود متحف لقناة السويس إلى حقيقة، وقد ساعده وجود مبنى راقٍ مِلْك لهيئة قناة السويس، والذى تم إعداده ليكون مقرًّا للمتحف الفريد. ويعود تاريخ المبنى إلى شركة خاصة كانت تدير المشروع ويعود تاريخه إلى عام ١٨٦٣م. وقد بناه المهندس فوزان ليكون مقرًّا لإدارة القناة، حيث يقع بين بورسعيد والسويس، وصُنع من الطوب والخشب. وتصميم المبنى عبارة عن عنابر متصلة، وقد ساعد هذا التصميم فى إنشاء متحف القناة. وقد قام الفريق أسامة ربيع بتكليف الفنان الدكتور محمود مبروك لكى يضع سيناريو للمتحف ويقوم فى نفس الوقت بتنفيذه.
و«مبروك» يُعتبر من القلائل المتخصصين فى العرض المتحفى على مستوى عالٍ. وقد عمل معى فى عمل عرض متحفى رائع لمتحف التماسيح بكوم أمبو، ومتحف الأقصر، حيث قام بتصميم قاعة مجد طيبة ومتحف العريش ومتحف إيمحوتب فى سقارة.
ومؤخرًا عمل على العرض المتحفى فى المتحف اليونانى والرومانى فى الإسكندرية، وتستمر إبداعاته، وقام بتصميم العرض المتحفى لمتحف العاصمة الإدارية ومتحف الحضارة. ومن الجميل أن الفريق أسامة ربيع أعطى الحرية الكاملة للفنان محمود مبروك. وكان الفريق أسامة يتابع العمل بنفسه يوميًّا، وقد أراد أن يكون هناك عين أخرى لتشاهد المتحف، لذلك فقد اتصل بى للحضور إلى الإسماعيلية لزيارة المتحف وإبداء الرأى، وبالفعل قمت بزيارة المتحف مع الدكتور مبروك، وأبديت بعض الملاحظات. وحضرت مرة ثانية، وشاهدت التعديلات، وهذا هو أسلوب النجاح أن تحصل على آراء المتخصصين. وفى النهاية قدم لنا الفريق أسامة ربيع متحفًا يُعد من أهم متاحف مصر المتخصصة يحكى تاريخ هذه القناة من خلال سيمفونية رائعة جميلة كان بطلها الشعب المصرى.
يبدأ سيناريو متحف قناة السويس منذ عصر ما قبل التاريخ، حيث اهتم المصرى القديم بحياة النيل كطريق ملاحى يربط بين شمال وجنوب مصر، ولذلك ترى داخل المتحف أقدم مركب خشبى من خشب السنط المحلى، والذى يعود إلى الأسرة الأولى، أى منذ حوالى ٤٨٠٠ سنة تقريبًا. وعُثر على هذا المركب عبارة عن ألواح تم تجميعها وترميمها. وبالمتحف قاعة تحكى عن الملك سنوسرت الثالث، أحد أهم ملوك الأسرة ١٢ من الدولة الوسطى، وهو أول ملك يأمر بحفر قناة لربط النيل بالبحر الأحمر، واستخدامها كطريق تجارى بحرى. ويعرض تمثال للملك سنوسرت الأول. وهناك لوحة ضخمة من الجرانيت تخص الملك الفارسى داريوس الأول، والذى يعود تاريخه إلى ٥٢٢ ق. م. وعُثر على هذه اللوحة بالدلتا. وتُعتبر أقدم وثيقة مكتوبة تثبت حفر القناة. ويعرض المتحف رأس الملك بطليموس الثانى، والذى نشطت التجارة البحرية فى عهده بين الجزيرة العربية وإثيوبيا والهند. ولا يزال المتحف يُظهر لنا أن مصر القديمة قد اهتمت بتنشيط التجارة، وهناك رأس جميل للملكة حتشبسوت؛ وهى من الملكات اللاتى اهتممن بتنشيط التجارة، وأرسلت أشهر أسطول تجارى فى العالم القديم جلب لمصر الذهب وشجر الأبنوس. وكان هذا الأسطول يتكون من خمس سفن كبيرة. وقد سجلت الملكة هذه الرحلة الشهيرة على جدران معبدها بالدير البحرى ليصبح أقدم تسجيل لرحلة بحرية فى العالم القديم، وفى نفس القاعة أظهر «مبروك» الصراع الأوروبى حول تجارة الشرق واتصالها بالغرب مثل البرتغال والبندقية وتركيا. وهنا نرى تمثالًا جميلًا لنابليون من الرخام. ومن الغريب أن «مبروك» قد شاهد هذا التمثال معروضًا فى قاعة عرض بالزمالك، ويجاور التمثال مدفع صغير من البرونز من أسطول نابليون، وقد تمت استعارة المدفع من المتحف البحرى بالإسكندرية، وعرضه بجواره الذخيرة التى كانت مستعملة فى ذلك الوقت، وكان حفر القناة ضد مصالح إنجلترا؛ ورفض محمد على بالموافقة على مشروع القناة لعدم تدخل وسيطرة الإنجليز. ولكنه فى نفس الوقت اهتم بإنشاء القناطر الخيرية وترعة الإبراهيمية والتوسع فى الزراعة وإنشاء أسطول بحرى مصرى، ويوجد بالمتحف كتاب وصف مصر الأصلى، بالإضافة إلى تمثال نصفى لمحمد على باشا ولوحة تأسيسية لحفر ترعة النوبارية. واستكمالًا لفترة محمد على، يتم عمل نموذج لإحدى السفن الحربية، وهو جزء يحمل مدافع أصلية كانت تحملها السفن الحربية لحماية مدخل البحر الأحمر، وهى معروضة بالخارج. وقد امتازت هذه القاعات بوسائل الشرح وبطاقات المعلومات والجرافيك، والبطاقات مكتوبة بثلاث لغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وأحب أن أوضح أن هذا هو المتحف الوحيد الذى كتب الموضوعات بثلاث لغات.
ويبدأ عصر محمد على باشا مع ظهور جماعة السالسيونيين، حيث كان دليسبس سياسيًّا وليس مهندسًا، وكانت تربطه بمحمد سعيد صداقة منذ الطفولة، وعرض عليه المشروع بتوصيل البحرين، وتم إعطاء دليسبس حق امتياز مشروع قناة السويس، وأضخم تمثال بالمتحف هو تمثال لدليسبس من البرونز المفرغ، وطوله يصل إلى عشرة أمتار، وكان يقف على مدخل القناة منذ عام ١٨٩٩، وهو يحمل خريطة القناة الأولى، وقد أسقطت المقاومة الشعبية التمثال من أعلى القاعدة بعد العدوان الثلاثى على مصر ليتم عرضه بالمتحف، وهناك قد يحاول البعض أن يعترض على وضع هذا التمثال، ولكن هذا جزء من التاريخ لا يمكن شطبه إطلاقًا، وهذا ما يحدث فى دول العالم كله، وهو أن تضم المتاحف التاريخ حتى لو كان هذا التاريخ أسود بالنسبة للشعب. ولذلك فعندما تضع تمثالًا لدليسبس فهو ليس لتكريمه، وإنما لتسجيل فترة مهمة من تاريخ مصر.
وهناك قائمة تصور رفض المصريين أعمال السخرة واستخدام العمالة المصرية بأجور قليلة. وفى هذه القاعة نجد نموذجًا للوحة الفنان عبدالهادى الجزار عن أعمال الحفر الأولى بأيادى المصريين، كما توجد بالقاعة أدوات الرسم والقياس للعرض ثلاثى الأبعاد، والحقيقة سوف تسمع الحوار الذى تم بين الخديو إسماعيل ودليسبس يستعرض كل منهما مشاكل العمل فى حفر القناة، وكيف تم التغلب عليها، وهذا الحوار الهيلوجرامى ممتع، ويحوى معلومات مهمة، وهنا يستمتع الزائر فى هذه القاعة برؤية تمثال جميل لمحمد على كان مصنوعًا من الجبس بوزارة الثقافة، ولكن د. مبروك أعاد صياغته بالبرونز.
ننتقل الآن إلى قاعة الحرير، وأهم القطع هى بقايا إحدى السفن الغارقة لجزيرة سعدانة، والتى كانت تحمل الأوانى الخزفية والعطارة، وهو ما يميز طريق الحرير البحرى، الذى كان يمر بموانئ البحر الأحمر إلى الخليج العربى والفارس إلى الهند منذ أكثر من ١٢٠٠ عام، واشتهر هذا الطريق باسم طريق الحرير خاصة لأن التجارة فى ذلك الوقت كانت للأقمشة الحريرية والعطارة، ولذلك توجد فى القاعة الأوانى الخزفية الجميلة القديمة، ونحن نعرف أن أوروبا لديها هذا الجمال فى الصناعة، ولكن بعد ذلك انتشرت فى أوروبا صناعة البورسلين، وذلك فى مناطق ليموج بفرنسا وسيڤر بإنجلترا ومايسن بألمانيا، وتُعرض فى هذه القاعة بعض البضاعة القديمة، التى كانت تصل إلى أسواق العطارين بمصر لجعل ضرورة حفر هذا الممر المائى لتسهيل طرق المرور وللطريق المائى بين تجارة الشرق والغرب ضرورة مهمة، وكانت بداية الحفر الفعلية عام ١٨٥٥، وهنا سوف نجد عرض الكابل الذى كان يربط بين الإسماعيلية وباريس، ويُعتبر أقدم تلغراف فى إفريقيا.
ويُعرض فى هذه القاعة تمثال فريد لبوذا، بتأثيرات رومانية من الرخام، ويعود إلى القرن الثالث الميلادى، عُثر عليه فى برنيس بالبحر الأحمر عام ١٥٨٤- ١٦٦٧م. وهناك قاعة بداية أعمال الحفر، وهذه القاعة مهمة جدًّا لأننا سوف نعرف من خلالها معلومات موثقة لأول مرة عن حفر القناة. ونحن نعرف أن بداية الثورة الصناعية لاكتشاف قوة البخار فى تيسير القطارات وماكينات الحفر والكراكات منذ عام ١٨٥٠م، وقد لعبت دورًا مهمًّا فى حفر القناة، وتم استخدام أولى الكراكات فى عام ١٨٦٦ بشكل فعال، وزاد الاهتمام بتسجيل الأبحاث فى استخدام الأسمنت والخرسانة المسلحة فى مشروع حفر القناة. وسوف نشاهد فى هذه القاعة إحدى عربات النقل الأثرية على قضبان حديدية تسجل كاختراع، كما سُجل استخدام أول خرسانة مسلحة بالحديد فى العالم، والتى استُخدمت فى بناء فنار الإسكندرية، وقد تم عرض نماذج لهذه الاختراعات مع عرض تمثال نصفى من الرخام الأبيض للمهندس فوازان، مدير المشروع. ويعتقد البعض أن دليسبس هو الذى حفر القناة، وهذا خطأ كبير لأن «فوازان» هو المهندس المسؤول بالكامل عن حفر القناة، وسوف نشاهد أيضًا أول استخدام للتلغراف بين نفس المبنى (مبنى المتحف العام) وباريس، وذلك باستخدام أطول كابل بحرى بين إفريقيا والعالم للمساعدة فى الاتصال بمركز النشر. كما يعرض السنترال القديم المستخدم وبعض أجهزة التلغراف والتليفون القديم كذلك يعرض نموذجًا لاستخدام الأعمدة المصنوعة من الحديد الزهر فى الإنشاء والعمارة مثل فندق قصر الجزيرة المخصص لاستقبال الملوك الذين حضروا افتتاح قناة السويس.
ومن أهم ما يُعرض بالمتحف تسجيل كامل لأوبرا عايدة، التى كتب فكرتها الأثرى الفرنسى ماريت باشا، وألف الموسيقى ڤيردى. وتُعرض بالمتحف النوتة الموسيقية وبعض نماذج من الملابس والإكسسوارات التى كان يلبسها الفنانون، وقد تمت استعارتها من دار الأوبرا، ويعرض أيضًا أقدم عربة سكة حديد عُرفت فى مصر، وهى العربة التى كانت تنقل العمال إلى موقع حفر القناة، وكذلك مركب خشبى يسافر بين مصر ولبنان، وكذلك العربات الملكية التى استقلها كل من أوجين والخديو إسماعيل من بورسعيد إلى الإسماعيلية والسويس، وهذه كانت عربات كبيرة تجرها ستة أحصنة، وبها إكسسوار كامل وملابس الخيالة.
وتوجد قاعة غزو الصحراء، حيث لم تكن الأراضى بين منطقة السويس وبورسعيد، والتى تشغل مساحة حوالى ١٦٦ كم سوى أراضى صحراوية ورمال فقط، وحفر القناة كان يحتاج إلى ثلاث نقاط مهمة، مع وجود سكة حديد لتحمل العامة وتنقل المواد والمؤن وتلغراف الاتصال طوال خط قناة السويس ومركز الشركة بمصر وباريس، وقد أمد سعيد باشا والخديو إسماعيل الشركة بالمال عند كل احتياج، وهو ما اهتم به المهندس فوازان.
وهناك قاعتان لسعيد باشا وإسماعيل باشا. أما قاعة سعيد باشا فهى أصلية، تم نقلها من ممتلكاته بالإسكندرية، وتمتاز بحوائط مزخرفة بأسلوب قصور الأتراك، وأهم المعروضات طقم من السيراميك مصمم على الزخارف الفرعونية، وهو نادر، ولم يُعرض من قبل، وفاترينة بها فستان أوجولى طبق الأصل نُفذ فى باريس وملابس رسمية للخديو وصفوف تحمل نياشين أصلية. وأخيرًا يوجد تمثال للرئيس عبدالناصر الذى أمم قناة السويس، والآن يقوم المتحف بعمل سيناريو عرض للقناة الثانية، التى تم حفرها فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى. هذا المتحف رائع، ومهم التعريف به، ووضعه على البرامج السياحية، وأتمنى أن يزوره كل مصرى. لم يبقَ سوى أن أنوه إلى ضرورة عقد مؤتمر صحفى لكى يعرف العالم كله بهذا الإنجاز.