تنتصب، في قلب «متحف الحرب الإمبراطورية» في لندن، جدارية للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، متعملقاً فوق مجسم لقبة الصخرة، ممسكاً ببندقية في وضعية إطلاق النار بيد واحدة، وهي واحدة من أشهر اللقطات التي صنعت صورته في المخيال العراقي والعربي.
تختصر الجدارية، التي تقول وثائق المتحف إنها جُلبت من مدخل ميناء «أم قصر» العراقي، الموقع المؤثر الذي احتلته القضية الفلسطينية، أكان في صناعة شطر كبير من شرعية الزعامة العربية وخطابها السياسي والدعائي عبر التحشيد والتجييش، أم في هندسة المكايد السياسية ضد الخصوم. وتحيلنا جدارية صدام إلى استمرار الاستثمار في السردية الفلسطينية بالشكل الذي تمارسه إيران اليوم، باسم القدس والتحرير والتضامن الإسلامي ومقاومة الظلم، في لحظة تتكثف فيها مآسي الفلسطينيين في غزة على نحو يذكّر بأبشع مآسي الحروب في القرن الماضي.
لا شيء يوحي بأن مصير الدعاية الإيرانية الراهنة وتبجحها سيختلف عن المصير الذي تجسده جدارية صدام، بوصفها مجرد صدى متحفي وتذكير قاتم بمآلات الخواء الخطابي والشعاراتي، وشهادة مؤلمة على الفشل في استخلاص الدروس من تجارب يعاد تكرارها.
ما نحن بإزائه اليوم في غزة، يؤكد أن الاستثمار الدعائي في القضية الفلسطينية نادراً ما تُرجم إلى فوائد ملموسة للفلسطينيين، بل عمل، بدلاً من ذلك، على إدامة دورات العنف وتثبيت الفلسطينيين كضحايا مفيدين لمن يخوضون بلحم الفلسطينيين ودمهم جولات التنافس على السلطة والنفوذ والزعامة في الشرق الأوسط. وما جدارية صدام، منتصباً فوق القدس، إلا تجسيد لهذا الانفصال بين الخطابة الرنانة والحقائق المزرية على الأرض.
ولئن كانت الكراهية، على الجانبين العربي - الفلسطيني من جهة، والإسرائيلي من جهة مقابلة، هي وقود هذه الدورة العنفية المستمرة من دون انقطاع، وجب الانتقال إلى ما هو أبعد من تبجح بعض السياسة العربية الإسلامية حول المقاومة والنصر، وأبعد من جلافة المقاربة الأمنية العسكرية التي يعتمدها اليمين الإسرائيلي المتطرف مع الفلسطينيين.
الصدام الحاصل في غزة هو بين عقل غيبي تقوده إيران وتيارات الإسلام السياسي الجهادي، ويقوم على إيمان بالتضحية القصوى كمدخل إلى تحقيق العدالة المطلقة، وبين عقل الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي الذي يؤمن بالتفوق التقني المطلق وآلية صنع القرار القائمة حصراً على البيانات. وبين العدالة المطلقة التي لا تترك مجالاً لحقوق الآخر، وبين التفوق التقني المطلق الذي لا يترك حيزاً لوجود الآخر، يبرز الافتقار الفادح لأي حد أدنى من التعاطف على الجانبين، والذي به وحده يمكن لنا أن نتجاوز التطلعات الميتافيزيقية للعقل الإيماني، والمنطق البارد المحسوب للذكاء الاصطناعي.
فالمسلحون الفلسطينيون المعبؤون ضد «الآخر اليهودي» والمتسلحون بشرعية سماوية مفترضة، لا يرون في ضحايا 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي غير أفراد يستحقون الموت. الأخطر من ذلك هو استعداد العقل الجمعي لرفض الاعتراف بالأهوال التي ارتُكبت ذاك النهار من قتل وغيره. ومثل الفلسطينيين، لا يرى الإسرائيليون في عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين الفلسطينيين إلا خسائر جانبية، لا يتحمل مسؤوليتها الأداء العسكري الإسرائيلي المتفوق بتقنياته وأجهزته، بل الضحايا أنفسهم أو من اختبأ وراءهم!
بإزاء هذا النفي المتبادل لبشرية الآخر، يبرز التعاطف المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كحاجة ماسة، يمكنها تمهيد الطريق لحوار يسمح باستيعاب الأبعاد العاطفية والروحية للتجربة الإنسانية على الجانبين، وهي الأبعاد التي كثيراً ما يتم إهمالها في نماذج الحكم القائمة على سطوة البيانات أو يقينيات العقل الديني. التعاطف، في الحقل السياسي، وفي إطار فض النزاعات، يذهب أبعد من فهم ومشاركة مشاعر الآخر؛ لأنه يمتلك القدرة على تغيير منظور المتنازعين وتحريرهم من أسر السرديات الثنائية للخير والشر، والجلاد والضحية، وهذا أكثر ما يحتاجه اليوم الفلسطينيون والإسرائيليون ليكون بوسعه المضي قدماً في عالم ما بعد 7 أكتوبر.
والحال، إن كان لنا أن نرسم خطاً فاصلاً، بين ما قبل 7 أكتوبر وما بعده، فلا شيء أفضل من أن يكون إعلاء التعاطف كقيمة تنويرية هو الفيصل بين هذين الزمنين.
لا ينفي التعاطف الحاجة إلى اتخاذ تدابير أمنية قوية على الجانب الإسرائيلي، ولا يقوض التطلعات المشروعة لتقرير المصير عند الفلسطينيين، بل هو دعوة للموازنة بين المصلحة الذاتية العقلانية لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين، وبين اهتمام كل منهما برفاهية الآخر وكرامته وحقه بالحياة، وصولاً إلى آليات مشتركة للتعاون والتفاهم المتبادل.
جدارية صدام هي تجسيد بصري لفكرة التضامن مع القضية الفلسطينية، وهي كذلك إثبات ملموس أن التبجح والدعاية وحدهما لا يستطيعان تحقيق العدالة للفلسطينيين. والجدار التقني الفاصل بين غزة وغلافها المعبأ بآخر تقنيات الذكاء الاصطناعي، هو تجسيد لفشل التكنولوجيا الصرفة في حماية السكان من تبعات الظلم الواقع باسمهم على الفلسطينيين.
هذه حقائق موضوعية يجب أن تدفعنا للاعتراف بحاجتنا لتسخير قوة التعاطف لصياغة مسارات جديدة للسلام، وسد الفجوة بين التطلعات الوطنية الفلسطينية والمخاوف الأمنية الإسرائيلية، بما يوفر طريقاً للمضي قدماً يكون متجذراً في إنسانيتنا المشتركة، خارج عقلية «الجدارية والجدار».