بقلم : مشعل السديري
لما اشتد القتال بالسواد، يعني في القادسية، وكان أبو محجن قد حبس وقيد هو في القصر، فأتى سلمى بنت حفصة امرأة سعد، فقال: يا بنت آل حفصة! هل لك إلى الخير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء، فلله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في قيدي، وإن أصبت فما أكثر من أفلت، فقالت: ما أنا وذاك، فرجع يرسف في قيوده ويقول:
كفى حزناً أن تردى الخيل بالقنا
وأترك مشدوداً عليّ وثاقيا
ولله عهد لا أخيس بعهده
لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا
فقالت سلمى: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته وهي تقول له: أما الفرس فلا أعيرها وهي لك، ورجعت إلى بيتها، فاقتاد الفرس فأخرجها من باب القصر فركبها ثم دب عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة كبّر ثم حمل على ميسرة القوم، يلعب برمحه وسلاحه، وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب هاشم، أو هاشم نفسه، وجعل سعد يقول وهو مشرف على المعركة ومكب من فوق القصر: والله لولا محبس أبي محجن لقلت: إن هذا أبو محجن وهذه البلقاء، وقال بعض الناس: إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن صاحب البلقاء الخضر، وقال بعضهم: والله لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا ملك بيننا، ولا يذكره الناس؛ لأنه بات في محبسه، فلما انتصف الليل تحاجز أهل فارس، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج، فوضع عن نفسه ودابته وأعاد رجليه في قيديه.
فقالت له سلمى: يا أبا محجن، في أي شيء حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، يبعثه على شفتي أحياناً، فيساء لذلك ثنائي، ولذلك حبسني عندما قلت:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وتروى بخمر الحص لحدي فإنني
أسير لها من بعد ما قد أسوقها
فلما أصبحت سلمى أخبرت سعد بن أبي وقاص عن خبرها وخبر أبي محجن، فدعا به فأطلقه، وقال: اذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، فرد عليه: لا جرم، لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبداً – وبعد ذلك ترك معاقرة الراح.