بقلم : عبد الرحمن شلقم
الإنسان لا يتوقف منذ بدء الخليقة عن خوض المعارك. لكن الجبهات تتعدد وتختلف عبر الزمان والمكان، مع نفسه ومع من حوله ومع الطبيعة. اكتشاف ما حوله بمصباح عقله، وتعبئة قوته لأجل تحقيق منفعة أو دفع ضرر. في العلم العسكري ترسخت قاعدة تكتيكية وهي، الإنزال خلف خطوط العدو. تكرر تنفيذ هذا التكتيك في المعارك التي شهدها العالم، الكبيرة والصغيرة منها. الحرب العالمية الثانية، كانت ولا تزال أكبر الحروب التي عرفتها البشرية. شهدت كل أنواع التكتيكات والمناورات، هجوماً ودفاعاً وانسحاباً. جنرالات ألمانيا النازية القوية حققوا انتصارات كبيرة، وذاقوا مرارة الهزائم. كان زعيمهم الذي لا يناقش، أدولف هتلر يجرم كلمة انسحاب، ويعاقب من يتفوه بها بالعزل أو حتى السجن. الأمر الدائم الذي يصدره لقادة الجبهات: القتال حتى آخر جندي وآخر رصاصة. الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، كان لا يثق بجنرالاته، وأعدم المئات منهم، لأنه كان يرى فيهم قوة تهدد سلطته المطلقة في الكرملين. السياسي البريطاني ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا، كان عسكرياً وسياسياً ورساماً وأديباً. حاور وناور وهاجم ودافع وانسحب. قال عن أحد أكبر وأبرع جنرالاته، برنارد لو مونتغمري: إنه لا يُطاق ولا يُهزم. ماذا لو كان هذا القائد العسكري تحت إمرة ستالين أو هتلر؟! بالتأكيد كان سيعاقب بشدة على صفته الأولى، ولن يحقق إلا شيئاً واحداً، وهو ظلمات زنزانة أو قبر. لقد لحقت بونستون تشرشل لعنة عسكرية وسياسية في حملة غليبولي في الحرب العالمية الأولى، التي قُتل فيها أكثر من 50 ألف جندي من قوات بريطانيا وحلفائها. كان تشرشل وزيراً للبحرية. لكنه لم يسحب دهاءه السياسي، ولم تُهزم تكتيكاته العسكرية التي جمعت بين ديمقراطية الاستماع للجنرالات، والنقاش في البرلمان، وقبول هجومات المعارضة ووسائل الإعلام البريطانية، والخلاف مع الحلفاء وفي مقدمتهم الجنرال شارل ديغول قائد قوات فرنسا الحرة.
سحب القوات البريطانية من فرنسا التي وقعت تحت الاحتلال الألماني، وأُنقذ مئات الآلاف من الجنود البريطانيين والفرنسيين عبر شاطئ دنكرك، وكان ذلك الانسحاب، ضربة عسكرية استراتيجية فارقة، تسببت بقوة في تغيير مسار الحرب.
في الحرب العالمية الثانية استعملت أسلحة جديدة للمرة الأولى. وأسلحة قديمة جرى تطويرها. الطيران والدبابات والمدفعية وغيرها، حركتها عقول قيادات عسكرية أبدعت تكتيكات غير مسبوقة. الجنرالات الألمان هجموا شرقاً وغرباً بما عرف بهجوم البرق السريع، وتمكنوا من إلحاق خسائر كبيرة بالعدو، في المقابل كان الحلفاء وعلى رأسهم بريطانيا، يعتمدون على التكتيك السياسي والعسكري المتحرك، والتقنية الفائقة. استطاعت بريطانيا بمساعدة العلماء والخبراء البولنديين فك الشفرة الألمانية، وعبَّأ العلماء البريطانيون عقولهم، واخترعوا الرادار، وهكذا جرى حشد القدرات العبقرية التي أفشلت مشروع هتلر وقائد قواته الجوية الجنرال هيرمان غورنغ، لكسر مقاومة بريطانيا بالغارات الجوية الألمانية المتواصلة، على العاصمة لندن. قال رئيس الوزراء البريطاني لشعبه: «ليس لديّ ما أقدمه، سوى الدم والدموع والعرق»، في حين قال أدولف هتلر للشعب الألماني: «اتبعوني أقودكم إلى النصر. في أقصى الشرق كانت إمبراطورية اليابان، في قبضة الجيش، ولم يكن الإمبراطور هيروهيثو، سوى صورة متحركة ترتدي جلباباً بألوان مقدسة. قام القادة العسكريون اليابانيون بهجوم نزق على الأسطول الأميركي في بيرل هاربر. تلك كانت الهدية الكبرى لونستون تشرشل التي أعطته الدفقة الأسطورية، ودفعت الولايات المتحدة إلى ميدان المعركة العالمية الرهيبة. في إيطاليا كان الفاشي بينيتو موسوليني، المسكون بوهم العظمة الرومانية، منبهراً بقوة ألمانيا النازية بعد اجتياحها فرنسا في أيام معدودة، وأراد أن يؤمن له مكاناً على مائدة مفاوضات كان يعتقد أنها قريبة بعد انتصار ألمانيا على فرنسا، فقام بغزو اليونان، والهجوم على القوات البريطانية في مصر بقواته المحتلة لليبيا، وأرسل ربع مليون مقاتل إيطالي الى الاتحاد السوفياتي دعماً للجيش الألماني. ملك إيطاليا فيتوريو ايمانويلي الثالث لا سلطة له، والقرار العسكري والسياسي بيد موسوليني وحده.
اكتمل تشكل الطرفين المتحاربين. الحلفاء من الاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، والمحور من ألمانيا وإيطاليا واليابان.
الحرب العالمية الثانية، أوقد نارها عريف متطوع في الجيش الألماني، كان طموحه أن يكون رساماً، لكنه تمكن من أن يرسم خريطة وهمه بالسيطرة على العالم بدماء وجثث الألمان وملايين آخرين من جنسيات مختلفة.
الحرب العالمية الثانية، كانت الخضم الإنساني الأكبر في التاريخ المعاش. لم تكن مجرد معارك مسلحة، بل عواصف عاتية متفجرة في العقول وفوق الأرض والجو وأعماق البحار. أُنزلت فيها قوات من الجو بالمظلات، ووقف فيها الجنرالات أمام الخرائط المرسومة بالتراب والطين، تجسد ميادين المعارك. الإنزال الكبير كان وراء خطوط الزمن الذي تراكم عبر عقود بل قرون طويلة. تغيرت القوى السياسية في العالم. اختفت إمبراطوريات، وبرزت قوى أخرى. استقلت البلدان التي عاشت طويلاً تحت الاستعمار. بدأ زمن جديد، غزا فيه الإنسان الفضاء، وصنع السلاح النووي، ولد زمن جديد بإنسان بعقل جديد. علماء يعيشون في المختبرات والمعامل، ومراكز البحوث، وملايين الطلاب في الجامعات، ودول ترصد المليارات من ميزانياتها للبحث العلمي، وعمال يصنعون ما كان يوماً من إبداع الخيال، وأدوية ألغت أمراضاً عاشت مع البشر قروناً طويلة. تقنية اتصالات أسست لدنيا جديدة. مليارات البشر يسمعون ويرون بعضهم. معارك العقل الإنساني في ميادين دفع الضرر وتحقيق المنفعة، لا تهدأ ولا تتوقف.
الزمن وعاء الوقت الذي يملؤه الإنسان بما يبدعه كل يوم، وينزل عقله أمام خطوطه. أمم تعيش فوق أراضٍ متخمة بالخامات والغابات، وتتدفق فيها الأنهار، لكنها تهيم في دوامات التخلف والفقر والوباء، لأنها تعيش في خنادق الجهل والخرافة والفساد والصراع، مغطاة برماد ماضٍ ميت ومميت. وأمم تعيش فوق أراضٍ لا خامات تحتها، ولا مناجم من ذهب، لكنها امتلكت ثروة العقل والفكر الحر المبدع، المنطلقة أمام خطوط الواقع والزمان. تلك هي المعركة الكبرى، من كل الحروب التي تواجهت فيها الجيوش بالنار والبارود.