بقلم : عبد الرحمن شلقم
فجر يوم الأحد الماضي الرابع عشر من الشهر الحالي، امتلأت سماء منطقة الشرق الأوسط بالطائرات المسيّرة والصواريخ منطلقةً من إيران تجاه إسرائيل. حبس الناس أنفاسهم يتابعون وسائل الإعلام المختلفة. حدث غير مسبوق في تاريخ المواجهات بين إسرائيل وأعدائها. منذ قيام الدولة العبرية لم تشهد مثل هذا الطوفان الهائل من الاجتياح الجوي. وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في كل العالم تحولت إلى رادارات مرئية ومسموعة تأسر العيون والآذان. إنها بداية حرب ترعب الجميع، ولا أحد يقدر على معرفة الآتي الرهيب. لقد دأب قادة إيران منذ سنوات على الإعلان عن تصميمهم على إزالة إسرائيل من الوجود، فهل زحف طيران الثورة على سماء إسرائيل، في يوم «الوعد الحق»؟ مئات الطائرات المسيّرة، والصواريخ بعيدة المدى، في اندفاع جماعي نحو فلسطين، بأمر من مرشد الثورة. إذن هي الحرب المقدسة نحو أرض المسجد الأقصى، وسيعيد المرشد علي خامنئي ما سبقه إليه سيف الدين قطز، وصلاح الدين الأيوبي. العرب والمسلمون يتابعون ما يرون ويسمعون، بفرحة أمل ممزوجة بقلق وشكوك. كيف تعلن إيران عن إطلاقها للصواريخ والطائرات المسيّرة، بساعات قبل وصولها إلى أهدافها، وكيف تشن هذا الهجوم على إسرائيل، انتقاماً لقتلها سبعة من قادة «حرسها الثوري» في دمشق، ولا تقوم حتى بنصف أو بربع هذا الحجم من الهجوم على إسرائيل، دفاعاً عن المدنيين الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال في قطاع غزة؟
بدأت وسائل الإعلام تنقل على الهواء بقع الومضات المضيئة في ظلام سماء إسرائيل وما حولها من البلدان. الخبر المتكرر هو عدد الطائرات المسيّرة والصواريخ التي تمَّ إسقاطها، ولا شيء عما ألحقته بإسرائيل. الخبر الآخر المعلن كان نجاح تقنية الدفاع الجوي الإسرائيلي، في إسقاط كل ما أرسلته إيران، والمساندة الكاملة من الطائرات والصواريخ الأميركية المضادة، ومعها قدرات بريطانيا وفرنسا في مواجهة الحملة الجوية الإيرانية. كانت ليلة الأمل والقلق والشكوك طويلة. انبلج الصباح عن الخبر اليقين. لم تلحق الغزوة الجوية الإيرانية الضخمة أي خسائر بشرية أو مادية بإسرائيل. بدأ هجوم المحللين العسكريين والأمنيين والسياسيين، عبر وسائل الإعلام المختلفة. وبدأت أصوات المتشككين، وندماء المؤامرة، وعشاق المسرح السحري الذي يرقص تحت الموائد السياسية. بدأوا يسابقون المحللين العسكريين والأمنيين والسياسيين. كتب أحدهم مبكراً على صفحته في «فيسبوك»: «ما قامت به إيران هو مجرد حفلة لطم وتطبير عاشورية في سماء إسرائيل وما حولها، وأن ما جرى كان مرتباً مسبقاً مع أميركا مباشرة، ومع الإسرائيليين عبر وسيط أوروبي».
لنرفع الستار عن المشهد الأول من «المسرحية»، كما سماها بعض هواة الشك والمؤامرة، ولندخل إلى الزاوية الأخرى من الركح العالي للمسرحية المزعومة. مباشرةً بعد قيام إسرائيل باغتيال الجنرال محمد رضا زاهدي، أحد أبرز قيادات «الحرس الثوري» الإيراني، بمقر القنصلية الإيرانية بدمشق، ومعه عدد من قيادات «الحرس»، أعلنت إيران رسمياً أنها سترد على ما قامت به إسرائيل. المرشد الإيراني علي خامنئي أكد ذلك في خطبته العلنية في صلاة عيد الفطر. إسرائيل جاوبت على الوعيد الإيراني مباشرة، وهددت بالرد القوي (وحصل الرد يوم الجمعة كرسالة). إذن معركة «البنغ بونغ» التهديدية بين الطرفين كانت فوق الطاولة، وبالصورة والصوت على وسائل الإعلام الرسمية.
السياسة إذا خلت من المؤامرة تكون مجرد أحلام في سطور من الشعر، أو أحلام غفوة. لكن المؤامرة السياسية ليست هي تلك التي يبرر بها الفاشلون نتائج جهلهم وعبثهم، ولكنها الحسابات السرية الدقيقة، والدراسات الجدية العميقة، التي يقوم بها القادة السياسيون لكل خطوة يعدون لها في الهجوم أو الدفاع، في مواجهة أعدائهم.
أعتقد جازماً أن إيران كانت تعرف قدرات إسرائيل الدفاعية، وتدرك مدى التزام الولايات المتحدة الأميركية، ومعها دول الناتو، بالدفاع عن وجود إسرائيل وأمنها، وأن الهجوم الجوي الكبير الذي أطلقته على إسرائيل، سيواجه رداً تقنياً بالصواريخ المضادة الحديثة والطائرات والرادارات المعقدة. لكن بالرغم من كل ذلك، أقدمت إيران على ما قامت به بحسابات ولأهداف تعمل من أجلها منذ نجاح ثورتها. قادة الثورة الإسلامية الإيرانية الخمينية ومفكروها أعلنوا مبكراً أن هدف ثورتهم هو قيادة الأمة الإسلامية، بداية بالشعوب العربية. فلسطين هي المفتاح السحري، لأبواب عقول العامة من الناس وعواطفهم. منذ ضياع فلسطين، وقيام دولة إسرائيل فوق أرضها، صارت هي الناقوس الذي يلهب المشاعر، والهاتف الذي يسمعه الجميع، ويتسابقون إلى كل مبادرة سياسية أو عقدية أو عسكرية تقرب يوم تحريرها.
بعد قيام دولة إسرائيل سنة 1948 شهد العالم العربي أول انقلاب عسكري في سوريا، وقاده الضابط حسني الزعيم، والمبرر كان ضياع فلسطين، وبعده تحركت مسبحة الانقلابات العسكرية، من مصر إلى العراق واليمن والسودان والجزائر وليبيا، دعنا من المحاولات الانقلابية الفاشلة، وفلسطين دائماً هي المانح لشرعية كل انقلاب ناجح، والوحدة العربية كانت الشعار الذي تُغنى له الأناشيد، وتُرفع له الهتافات والتصفيق. القومية العربية وقود الوحدة العربية الشاملة التي ستحقق النصر الموعود بالتحرير. مصر بقيادة الزعيم القومي العربي جمال عبد الناصر نقلت المنطقة إلى محطة جديدة، أضاءت ومضات الحلم، وصارت الخيط الذي نظم حبات مسبحة الأمل الموعود. بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967 تراجع المشروع القومي، وهلَّ زمن الإسلام السياسي. في موجة الإحباط، وتنمر إسرائيل وعدوانها المستمر على المقدسات في فلسطين، أشرقت الثورة الإيرانية الإسلامية، ووضع قادتها نسائم تحرير فلسطين حول عمائمهم السوداء والبيضاء، وشرعوا في شحن أفكارهم وشعاراتهم إلى بعض البلدان العربية، في صناديق طائفية، مع صناديق السلاح والمال والوعود بما هو منتظر، والقضاء على إسرائيل، و«تحرير كامل فلسطين». المشروع الإيراني له بعد تاريخي وديني متحرك، وطموح يحدوه الحاضر. واقع عربي يعاني من اهتزازات واضطرابات، وتسري في بعض بلدانه حروب ومعاناة وتفكك، والشعب الفلسطيني يُباد في غزة، ويُضرب ويعاني في الضفة الغربية، وإسرائيل تدفع بآلاف المستوطنين فيها وتسلحهم، ليستولوا على بيوت ومزارع الفلسطينيين. إيران عبأت كل قدراتها العلمية والمالية، لصناعة الصواريخ والطائرات المسيرة والسفن الحربية. وحركت أذرعها في عدد من الدول العربية. تقول اليوم إنها القوة الوحيدة القادرة على مواجهة إسرائيل، وإضاءة نور الحلم العربي والإسلامي، وهو تحرير فلسطين. الهجوم الجوي الضخم فوق إسرائيل كان المناورة الإعلامية والإعلان السياسي العملي عن قيادتها للمشروع الأكبر.
إسرائيل لا شك أنها أدركت بعد العملية الإيرانية مدى قوة وخطورة الطموح الإيراني، ومدى حاجتها للدعم الأميركي والأوروبي، وسيدرس قادتها ومعهم حلفاؤهم الأبعاد الاستراتيجية للبرامج الإيرانية، «العاشوراء» الإيرانية فوق سماء إسرائيل هي ضرب على صدور من يعتقد أن ملالاي إيران هم الفاتحون الجدد.