مع إطلاق صندوق الاستثمارات العامة بصفته ركناً أساسياً من «رؤية 2030» وأخباره تتصدر عناوين الأخبار الاقتصادية حول العالم، وذلك بسبب الحراك الطموح وجرأته على إنجاز الصفقات والاستثمارات بغض النظر عن المجالات أو الحدود الجغرافية.
ولم يولد صندوق الاستثمارات العامة مع «رؤية 2030»، إذ كان موجوداً من قبلُ، ولكنه تجمّد تماماً بسبب رتابة وسلبية وزارة المالية التي كانت مسؤولة عنه، وتم إطلاقه مجدداً مع الرؤية.
وكانت الفلسفة الرئيسية خلف إعادة إطلاق صندوق الاستثمارات العامة بهذا الزخم وبتلك القوة، هو أهمية وخطورة إدراك أن الاعتماد على النفط مصدراً وحيداً للاقتصاد الوطني هو بمثابة انتحار مالي بطيء، وأن التحرك السريع والفوري بات مسألة في غاية الأهمية تمس الأمن الوطني الاقتصادي والاستقرار المستقبلي.
وهذا التغيير الحاد في طبيعة الاقتصاد السعودي يتطلب قيادة حازمة لوضعه على الخط الجديد، فتم اعتماد صندوق الاستثمارات العامة ليكون بمثابة قاطرة المحرك الأساسية التي تقود سائر العربات خلفها؛ لأن حجم الصندوق وقدراته هو الذي يستطيع خوض تحدي التغيير، وجرّ سائر الاقتصاد الوطني خلفه.
ومن الطبيعي جداً القول إنه لا يزال الحُكم مبكراً جداً على تجربة صندوق الاستثمارات العامة، ولكن من المهم قراءة التغييرات التي تسبّب بها الصندوق لاستحداث ثقافة استثمارية جديدة، وبداية إرساء قاعدة اقتصادية وطنية جديدة.
واجه صندوق الاستثمارات العامة عاصفة من المشككين مع انطلاقات استثماراته الأولى بسبب ضخامة المبالغ المرصودة وتنوع المجالات وحداثتها، ولكن احتفظ الفريق التنفيذي للصندوق بهدوء عميق مستمراً في عمله، وممتنعاً عن التعليق. استثماراته تراوحت بين شركة سيارات كهربائية، وأكبر شركة مواصلات وصندوق استثمارات تقني. وتفاوتت النتائج وبدأ منحنى التعلم يبرز وتظهر نتائجه بوضوح، فبدأت مؤشرات التميز تظهر في مجالات بعينها اتضحت معها وجود مزايا تنافسية للصندوق. وبقدر الطموح والزخم الكبير للاستثمارات الخاصة بالصندوق في الخارج، كان الحماس ذاته للاستثمارات في اقتصاد الداخل السعودي فأقدم على الدخول في عدد غير قليل من المجالات التقليدية والمجالات الجديدة الطموحة.
ودخلت مفردات جديدة على الاستثمار السعودي مثل الاستثمار في السياحة والمواصلات الكهربائية والترفيه والرياضة وأصبح الصندوق أحد أهم المؤثرين عالمياً في هذه القطاعات.
وطوال هذه الفترة استمر الصندوق في مواجهة موجات حادة للغاية من الحملات المشككة في منهجيته، بالإضافة إلى التشكيك في جدارته وقدراته.
لكنّ شيئاً ما حدث، شيئاً ما مدوياً ومهماً أشبه بمكالمة إيقاظ عنيفة جعلت العالم يتوقف وينظر للصندوق بجدية واحترام ومهنية وجدارة.
حدث ذلك بعد خبر اندماج رابطة المحترفين للغولف مع بطولة ليف التي أطلقها صندوق الاستثمارات العامة، وهو اندماج تمت اجتماعاته بسرية عبر ثلاثة لقاءات مغلقة كان أولها في مدينة البندقية في إيطاليا ثم لندن ثم نيويورك. احترم العالم هذا الخبر وأدرك أن هناك احترافية وجدية في منهجية الصندوق، وكذلك كان تحليل صفقة فريق نيوكاسل الإنجليزي الذي حقق أحد أفضل مواسمه في تاريخه بعد شرائه من قبل الصندوق.
إذا كان هناك إنجاز قد حققه صندوق الاستثمارات العامة حتى الآن فهو تغيير ثقافة نموذج الأعمال الذي كان سائداً في السعودية، وتحويل القطاع العام إلى قطاع أكثر رشاقة وحيوية في المجال الاستثماري جاذباً إليه أهم الكفاءات والعقول والقدرات، وهي مهمة كانت يوماً ما تبدو شبه مستحيلة.
لا يمكن تقييم أداء صندوق الاستثمارات العامة عبر النظر إلى الجانب الكمي quantitative وإغفال أدائه في الجانب النوعي qualitative، فكلا الجانبين هما في غاية الأهمية لاستدامة التحول والنجاح.
صندوق الاستثمارات العامة اليوم هو محرك أساسي للاستثمارات الكبرى حول العالم، نمت أصوله بشكل عظيم وهائل في فترة وجيزة جداً من الزمن لتتخطى أصوله 700 مليار دولار أميركي مع جهاز تنفيذي يتجاوز عدده 1400 موظف، وبالتالي يزداد الطموح ويعلو سقف الأهداف، وليس سرّاً أن أحد أهداف الصندوق هو أن يكون صندوق الثروة السيادية الأكبر في العالم وهو يدرك أن التحديات التي تواجهه لن تكون سهلة، وأن بعد الاستثمارات سيأتي موسم الحصاد. تغيير العقلية التي كانت تشرف على إدارة الصندوق كان أحد أكبر التحديات، واليوم العالم انتقل من موقف الساخر والمشكك في أداء الصندوق إلى الرأي الذي يحترم ما أنجز وطموح الصندوق وشغفه الكبير، والتحدي الأهم أمامه هو زيادة شركاء الداخل والخارج حتى يتحول المجهود إلى صالح مستفيدين كُثر يصعب مع ذلك محاربته بسهولة. صندوق الاستثمارات العامة بثّ روحاً وحماسةً وتجديداً وإثارةً في اقتصادات كادت الرتابة وإدمان النفط أن تدخله في غيبوبة، وهذا بحد ذاته إنجاز مهم جداً لا يمكن التقليل منه.