بقلم : حسين شبكشي
خلال زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية الأخيرة إلى العراق ركّز العالم بشكل مستحق على مأساة الوجود المسيحي الآخذ في الاضمحلال، ويكاد يقترب من الاختفاء في العراق، وهو أحد المكونات الأصلية والأصيلة فيه منذ قديم الزمن. ومن المعروف أن موجات النزوح والهجرة الجماعية للطوائف المسيحية من العراق بدأت مع انهيار الدولة في العراق، وظهور الجماعات الأصولية الإرهابية، التي أقدمت على القيام بجرائم مروعة ضد الأقليات، وكان أهمهم المسيحيون.
وتقلّص الوجود المسيحي في المشرق العربي، ومرّ بموجات ومحطات لافتة ومهمة من المهم مراجعتها والتوقف أمامها جيداً. ولعل المشهد الأهم الذي لا يلقى الاهتمام الكافي هو مسألة تقلص الوجود المسيحي الفلسطيني في الشرق في مهد المسيحية نفسها فلسطين التاريخية، التي تشمل أراضي إسرائيل والضفة الغربية وغزة، بما في ذلك مدن بيت لحم والناصرة والقدس، التي لها أهمية كبرى، خاصة في الوجدان الفلسطيني.
في بدايات الحرب العالمية الأولى كان عدد السكان الفلسطينيين 616 ألفاً، كان تعداد المسيحيين منهم 69000، واليوم تبلغ نسبة الوجود المسيحي 1.7 في المائة من تعداد سكان يتجاوز ستة ملايين. وفي دراسة بحثية معاصرة قام بها مركز دراسات مسيحي فلسطيني أشار إلى أن أسباب هجرة المسيحيين من فلسطين هو الاضطهاد السياسي والاقتصادي ضدهم من قِبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وصمتهم تجاه تجاوزات المستوطنين المتعصبين ضدهم وضد كنائسهم التي تعرضت للإهانة والضرر. وهذا كله اضطرهم للهجرة الجماعية بشكل مركز ومكثف إلى دول أميركا الوسطى، ولكن الهجرة الأهم كانت إلى دولة تشيلي، التي أصبح بها جالية من الفلسطينيين المسيحيين يقترب تعدادهم من مائة ألف شخص، كان من بينهم بعض لاعبي كرة القدم في المنتخب الوطني التشيلي. ووصل ابن بيت لحم نجيب بوكيلة لرئاسة السلفادور، وهو المنصب الذي سبقه إليه من قبل ابن بيت لحم الآخر جورج حنضل في دلالة على الوجود المؤثر للفلسطيني المسيحي في القارة اللاتينية.
وهناك أيضاً الاضطهاد الاقتصادي المقنن الذي مارسه نظام حافظ الأسد، ومن بعده ابنه بشار، والذي أدى إلى هجرات جماعية مقننة بسبب التأميم والمضايقات والابتزاز الاقتصادي، وكانت الهجرة بشكل رئيسي إلى أميركا الشمالية. وهي هجرة مهمة وفيها رمزية بالغة الأهمية والدلالة، نظراً للمكانة المهمة التي توجد لإحدى أهم كنائس الأرثوذكس، والتي تتخذ من العاصمة السورية دمشق مقراً لها، بالإضافة لوجود أحد أهم وأقدم أديرة الرهبنة المسيحية في مدينة معلولا، التي لها مكانة بالغة الأهمية في التراث المسيحي، فهي لا تزال أحد المواقع القليلة جداً الباقية في العالم اليوم، التي يتحدث فيها سكانها اللغة الآرامية لغة المسيح عليه السلام.
وحدث ذلك أيضاً في لبنان البلد الذي يفتخر بوجود معظم الطوائف المسيحية على أرضه، ويعتقد بقيام السيد المسيح عليه السلام بزيارته وحصول معجزات من قبله على أرضه، وأنه بلد تم ذكره مرات عديدة في الكتاب المقدس، وهو البلد الذي عندما أعلن عن استقلاله كان ذا أغلبية مسيحية كبيرة، وقد تبدلت هذه المسألة كثيراً بعد النزوح الجماعي المسيحي والهجرات الكبرى إلى بلاد العالم الجديد في أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وأستراليا، وطبعاً القارة الأوروبية، التي كان لها نصيب عظيم من تلك الهجرة. وهذه المسألة هي التي جعلت باحثاً كندياً من أصول لبنانية هو الدكتور كمال ديب يتوقع نهاية الوجود المسيحي في لبنان تماماً في نهاية عام 2020، في كتابه المميز الذي حمل عنواناً لافتاً هو «وهذا الجسر العتيق: سقوط لبنان المسيحي 1920 – 2020»، ومجدداً يشعر مسيحيو لبنان بخنقهم وخنق وجودهم عن طريق الميليشيات الإرهابية التي خطفت لبنان مثل «حزب الله»، وهذا ظهر بشكل واضح وجلي خلال خطاب البطريرك الماروني بشارة الراعي في بكركي أمام حشد كبير جداً هتف البعض فيه «حزب الله إرهابي».
المسيحيون عنصر أصيل من خريطة الشرق التاريخية، ولا بد من معرفة مسؤولية كل فريق ساهم بأي شكل من الأشكال في مشروع تهجيرهم الممنهج من المنطقة، لأن هناك أطرافاً مسؤولة لا يتم تحميلها أي وزر من الجرم الذي حصل.
التعايش والتسامح والوسطية تصبح كلمات فارغة وجوفاء إذا لم تحول إلى معانٍ ملموسة على أرض الواقع يشعر بها الجميع بلا استثناء.