بقلم : فؤاد مطر
بصرف النظر عما إذا كان هذا الاهتمام من جانب أهل الحُكْم في السودان بالأزمة الداخلية التي تعصف بأقرانهم في إثيوبيا، هو الاهتمام الذي ينطبق عليه القول بما معناه إن الجار للجار ولو جار، أو أنه أخْذٌ بالقول الرسولي «خير الأصحاب عند الله تعالى خيرُهم لصاحبه، وخيرُ الجيران عند الله خيرُهم لجاره»، فإنه اهتمام يعكس في جانب منه ما تتصف به النفسية السودانية لجهة اللهفة عندما تصيب الجار نائبةٌ فيسارع من يمسك بمقاليد السُّلطة في السودان إلى التأكيد عملياً لجاره أنه «أخو إخوان» أي صاحب لهفة وأنه رهن الإشارة للمساعدة إن رأى الجار فيها جدوى.
ربما هنالك من يرى أن السعي الذي قام به قبل أيام رئيس الحكومة السودانية عبد الله حمدوك، كان من باب رد الجميل على وساطة آبي أحمد التي ساعدت في حل تناقضات في الانتفاضة على نظام الرئيس عمر البشير، وأن الاتصالات التي بدأها كانت عفوية ومن دون أن يتمنى عليه القيام بها أهل الحُكْم في إثيوبيا التي تعيش أزمة كيانية من شأن عدم إيجاد تسوية لها أن تتشقق الدولة التي لم تهنأ ما فيه الكفاية من طيّ ملف إريتريا بالتي هي أعقل وأحكم، وينتهي حالها صراعات أقاليم وحكومة مركزية لا حول لها ولا تأثير من أجْل حسم الأمور. ولنا في النزاع المستحكم الحلقات في إقليم «تيغراي» الدليل على أن أحوال أهل الحُكْم في معقلهم العاصمة أديس أبابا ليست على ما يدعو إلى الطمأنينة، وأن الكر والفر دائم باحتمال الحدوث بين قوات النظام والقوات المنتمية تحت لواء زعيم «جبهة تحرير شعب تيغراي» الذي عندما بدأت المساعي لوقف مؤقت لإطلاق النار والجلوس إلى طاولة التحادث فيما لهذا الطرف وما على الطرف الآخر وبالعكس، فإن زعيم الجبهة ديبرصيون جبريميكئيل أملى شروطاً على النظام في أديس أبابا يمليها عادةً المنتصرون والذين هم على استعداد لمزيد من القتال.
هنا يجوز القول إن عناد رئيس الحكومة الإثيوبية آبي أحمد المطمئِن إلى ورقة شعبية في موضوع «سد النهضة» الذي يبدو أنه يمضي إلى النهاية في تحقيق أجندة إنجازه غير متجاوب مع الجاريْن المتضرريْن السودان بنسبة يمكن تحمُّل الضرر، ومصر التي لا تتحمل أي إنقاص لحصتها المائية من النيل، كان سمة التعامل مع اتيغراويين بدلاً من اعتماد لغة التحاور بما تحويه من مفردات كفيلة بتقليل نسبة التحديات، وعندها يشق موضوع تبادل المصالح طريقه بأمان.
من هنا وفي ضوء ما آل إليه عناد طرف ممسك بالسُّلطة وطرف يطالب بحقوق، قرأ عبد الله حمدوك في كتاب المصير الإثيوبي وبدأ السعي من أجل تحقيق تسوية في إثيوبيا مستلهماً في ذلك تجربة الحُكم السوداني الجديد بصيغته التشاركية (جنرالات وأحزاب مدنية) في حل «تيغرايات» سودانية كان من شأن عدم حسم أمرها بالنيات الحسنة المتدرجة ثم بالتشاور فالتحاور فالمحاصصة كلٌّ بنسبة ما يستحق، أن تبقى «الدويلات» الثورية المسلحة على ما هي عليه تناهض السودان المتجدد بصيغة التقاسم حيث لا كفة أكثر من كفةٍ وزناً وتأثيراً، وبذلك لا تتكرر محنة ثورة 1964 التي كانت أحادية مقتصرة على حراك حزبي نشيط ما إن انتهى إسقاطاً للجنرال إبراهيم عبود ومجلسه العسكري حتى بدأ التنافر الحزبي وتناثرت في فضاء السياسة السودانية تجربة أن يُحكم السودان من جانب خلطة عطَّارين فيها الأنصاري إلى جانب الختمي إلى جانب الشيوعي إلى جانب الإسلامي. لم يبقَ من تلك التجربة التي تهاوت بسهولة أمام عودة منقحة قوامها مجموعة من الرواد الشبان يترأسهم زميلهم برتبة عقيد، سوى الصورة التذكارية والندم على تضييع فرصة تحقيق الاستقرار. وهذه العودة المنقحة التي عُرفت «ثورة مايو» أسست لنوع من الشراكة العسكرية - المدنية إنما كانت شكلاً فلم تصمد.
الشراكة الراهنة ما زالت متماسكة حتى الآن. والتنبيه متواصل من أجل ثباتها فلا يتم التفريط فيها، خصوصاً أن السودان المتجدد بصيغة الحكم التشاركي على موعد مع دور بالغ الأهمية يجري في كواليس دوائر القرار الأميركي رسمُ معالمه، ويترافق مع ذلك اتخاذ خطوات متدرجة في شأن تخفيف أعباء الديون إلى درجة إلغاء الممكن إلغاؤه وفي شأن الاستثمار في «القارة السودانية» مترامية الأطراف.
وإذا جاز الاستنتاج ونحن نتابع سعي رئيس الحكومة عبد الله حمدوك، ووزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي، وقبل ذلك إطلالات متأنية للرئيس عبد الفتاح البرهان، وإشارات كلامية غير عصيٍّ فهْمها على اللبيب تأتي من نائبه صاحب الشأن و«التدخل السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لأمكن القول إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وفي ضوء تقييم على درجة من التأني باتت ترى تعزيز دور السودان ليكون بمثابة البوابة الأميركية للقارة الأفريقية في ربع القرن المقبل، كما هو دوره الآخر الذي يُنتظر تعزيزه وهو البوابة العربية والإسلامية للقارة السمراء. وهذا الاهتمام الأميركي هو استباق وبداية تطويق لما تنشط في شأنه الصين وروسيا كل منهما بوسائلها وطموحاتها. الصين بأن تكثف الاهتمام الاقتصادي والنفطي والتنموي عموماً في السودان وهي من أجل ذلك بدأت تدلي بدلوها في شأن المساعدة التي تحقق تسوية لموضوع «سد النهضة» ترتضيها مصر والسودان ويخفف زعيم إثيوبيا من عناده خصوصاً في حال أثمر السعي السوداني حلاً للعقدة التيغراوية، وعلى نحو الحل الذي اعتمدته القيادة السودانية الجديدة لموضوع دارفور الذي لا تختلف الدوافع فيه عن إقليم تيغراي.
وأما الخشية الأميركية التي جعلت نسبة الاهتمام تتجاوز الشكليات مع أهل النظام التشاركي خصوصاً بعد أن شقت ورقة التطبيع طريقها، فهي أن يخطف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السودان وينشئ فيها بوابته الأفريقية على نحو ما فعل بسوريا تاركاً أميركا تندب سوء حساباتها.
ويبقى أن السودان الغائب فالمغيَّب ماضياً يتصدر المشهد الدولي خطوة خطوة حاضراً... والأرجح دائماً. وهكذا لكل دولة فرصتها كما السودان، وحظها العاثر كما لبنان.