لا يزال ما جرى في الداخل الروسي في الأيام القليلة الماضية، يرسم علامات من الاستفهام والتعجب، بل الحيرة، كلما حاول المرء الاقتراب من الصورة بأبعادها الكاملة، ومحاولة فهم حقيقة المشهد، وهل بالفعل تعرض بوتين لنوع من الانقلاب، أم أن ما جرى برمته لم يكن سوى خدعة داخلية روسية، لها ما ورائياتها عما قريب جداً؟
حكماً لم تكن تحركات بريغوجين نهار السبت الماضي، هي الأولى من نوعها، فقبل بضعة أسابيع حذر من أن روسيا قد تواجه ثورة مماثلة لثورة 1917، وتخسر الحرب في أوكرانيا، ما لم تتعامل النخبة بجدية مع الواقع العسكري.
لم تكن تلك التصريحات لتغيب عن أعين صقر الكرملين، ولا بقية الأجهزة الأمنية والاستخبارية المعاونة له.
هنا تطفو على السطح تساؤلات عميقة، لا نجد لها جواباً، في مقدمها لماذا التزم بوتين الصمت ولم يتخذ أي إجراءات لإحباط مخططات بريغوجين، الذي بدا وكأنه يسعى بالفعل للاستيلاء على القيادة العسكرية الروسية، لا سيما بعد بدء تحركاته نحو موسكو؟
الذين لديهم معرفة بالعلوم العسكرية، يدركون معنى ومبنى مفهوم «ميزان الانتباه العسكري»، أي قدرات جيش في مواجهة جيش آخر، وحال تطبيق هذا المفهوم على المواجهة بين جماعة «فاغنر»، التي لا يتجاوز عددها 25 ألف نسمة، وبين الجيش الروسي الذي يبلغ قوامه نحو مليوني جندي، يدرك المرء أن هناك حلقة مفقودة في المشهد.
يحاجج البعض بأن الحدث هو أخطر تحدٍ يواجه بوتين خلال أكثر من عقدين من الزمن، هذا إذا اعتبرنا أن ما جرى هو الحقيقة، وليس جزءاً من «خطة الخداع الكبرى»، التي ستتكشف لاحقاً.
التساؤلات المحيرة والمقلقة تبدأ من عند عدم التعرض لقوات «فاغنر»، وانعدام مقاومتها عندما سار «طباخ بوتين» السابق وقواته إلى روستوف، وسيطر على مقر المنطقة العسكرية الجنوبية هناك... هل كان ذلك جزءاً من سيناريو آخر خفي؟
الصحافة الغربية، ومنذ السبت الماضي، لم توفر سرد وعرض سيناريوهات تقطع بأن بوتين تقاعس عن مواجهة بريغوجين، وهذا يدل على عدم وجود تنسيق رفيع المستوى في الحكومة الروسية، بل ووجود خصومات داخلية محتملة، كما يعتقد المسؤولون الأميركيون.
بلغ الأمر حد القول بأن بريغوجين يتمتع بنوع من الدعم بين القوات العسكرية النظامية الروسية، لا سيما أجهزة الأمن وربما الاستخبارات.
تأخذنا محاولات القراءة المعمقة في ما جرى، إلى طريقين؛ الأول هو ما تروج له وسائل الإعلام الغربية من أن المشهد يحمل في طياته، نهاية عقدين من حكم بوتين، فيما الثاني يفتح الباب لسيناريو الخدعة التي حدثت وانطلت على العالم، باستثناء قلّة من الراسخين في المعرفة الروسية.
تقول «واشنطن بوست» إن الاستخبارات الأميركية كانت تعلم أن تحركاً عسكرياً من قبل قوات «فاغنر»، على وشك الوقوع، ومع ذلك فإنها التزمت الصمت درءاً لاتهامها بأنها تسعى لتعميق الانقسام في الداخل الروسي، وهو تصرف على خلاف ما حدث قبل فبراير (شباط) 2022، عندما أعلنت عن استعدادات روسيا لعملية عسكرية في أوكرانيا.
هل بالفعل صمتت أجهزة أميركا الاستخبارية، وبهدف تمهيد الطريق لإزاحة بوتين، ومن دون إطلاق رصاصة واحدة، أم أنه لم يكن لديها يقين تجاه ما تجري به المقادير في الداخل الروسي؟
البريطانيون من جانبهم، ذهبوا بعيداً جداً، فقد خرجت «التلغراف» البريطانية، نهار الأحد، بخلاصات مفادها بأن بوتين ربما يكون قد نجا بنفسه من ثورة مسلحة بقيادة يفغيني بريغوجين، ومرتزقة «فاغنر» الذين صنعهم، لكنه سيمسي كسيراً إلى الأبد، وأن أيامه في الكرملين معدودة.
التحليلات الصحافية الأوروبية، أظهرت حالة من «التنبؤات الذاتية»، تكشف عن مكنونات الصدور، فقد قال بعضهم: «إن القادة الروس نادراً ما صمدوا لفترة طويلة بعد أي انقلاب عسكري».
دلل القائلون بما حدث مع ميخائيل غورباتشوف عام 1991، ومن بعده بوريس يلتسين عام 2000، فقد كتبت الانقلابات العسكرية التي جرت ضدهم نهاية حكمهم، رغم انتصارهم المؤقت على تلك التحركات العسكرية.
يخطر لنا أن نتساءل: هل تحركات «فاغنر» الأخيرة، كانت انقلاباً رسمياً أو ثورة مستترة؟
بعد أن هدأت النفوس وبردت الرؤوس، يمكن للمتابع أن يحلل تصريحات بريغوجين، وساعتها سيجد أن الرجل قد بذل قصارى جهده ليفصح عن نياته، وكيف أنه لا يحمل انقلاباً على بلاده، وإنما ثورة على وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ورئيس أركان الجيش فاليري غراسيموف، الذي اتهمه بريغوجين بانعدام الكفاءة التي أفضت إلى مقتل آلاف الجنود الروس.
بعد ساعات من بدايات العمليات العسكرية، ارتفعت سخونة تصريحات بريغوجين، ونالت بوتين ورئاسته، ليظهر فجأة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، في المشهد، كبطل قادم من الميثولوجيا الإغريقية، ويقوم بوساطة معجزية، وفي زمن قياسي، بين بوتين وقائد «فاغنر».
حصل لوكاشينكو بسرعة البرق من سيد الكرملين على عفو لبريغوجين، ليعلن الأخير سحب قواته بالمرة من مدينة روستو ومن نواحي أو ضواحي موسكو، لتنتقل إلى بيلاروسيا، بعدتها وعتادها.
وسط هذه الأزمة، لاحظ الجميع غياب شويغو، لمدة أربعة أيام، قبل أن يظهر صباح الاثنين على الجبهة الأوكرانية، مباشراً أعمال القتال، ومؤكداً تصريحات بوتين حول التنسيق القائم والقادم بين كافة أطراف الحكومة الروسية، لإنجاح الخطط العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
هل كان هدف ما جرى هو نقل قوات بريغوجين إلى بيلاروسيا، لتكون قريبة من لاتفيا وبولندا، وبقية دول أوروبا الغربية، تحسباً لتطوير الهجوم الروسي، في حال ساءت الأمور على الجبهة الروسية - الأوكرانية؟
المثير أن لاتفيا بدأت بالفعل منذ صباح الاثنين في تعزيز قواتها على الحدود مع بيلاروسيا، تحسباً لهذا السيناريو الدراماتيكي، فيما كان بريغوجين يصرح ضاحكاً: «نحن لم نقترب من أوروبا بعد فلماذا تهلعون؟».
من أصعب الأمور قراءة ما يدور في عقل الروس... لكن ما يقال اليوم همساً في المخادع، غداً سينادى به من دون أدنى شك من فوق السطوح.