هل عالمنا المعاصر، بأمواجه وأنوائه، حروبه ومواجهاته، في حاجة إلى إعادة قراءة كتابات الفيلسوف الألماني الأشهر، إيمانويل كانط، والذي تمر هذا العام ثلاثة قرون على مولده (1724)، لا سيما رؤيته للسلام العالمي؟
يمكن اعتبار كانط، ومن غير مغالاة، آخر الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبية الحديثة، وكذلك أحد أهم فلاسفة عصر التنوير الأوروبي، ذاك الذي بدأ بالمفكرين البريطانيين أمثال، جون لوك، جورج بيركلي، وديفيد هيوم.
استشرف كانط من قراءته لمسيرة الإنسانية حاجة العالم إلى السلام، بأكثر من الحرب، وهي في واقع الحال فكرة قديمة اتجه إليها حكماء العصور الغابرة وحمل لواءها الفلاسفة الرواقيون منذ القرن الثالث قبل الميلاد، حين أهابوا بالإنسانية أن تحرر نفسها مما يفرّق بين الإنسان وأخيه الإنسان من فروق اللغات والأديان والأوطان، ونظروا إلى الناس جميعاً وكأنهم أسرة واحدة، قانونها العقل ودستورها الأخلاق.
من هنا بدا كانط أكثر الفلاسفة الأوروبيين عناية بمسألة السلام العالمي، وصاحب آراء متعددة ومتنوعة في الدروب الواجب سلوكها من أجل أن يعم السلام على الكرة الأرضية، تلك التي ضمّنها في كتابه الشهير المعروف باسم «مشروع للسلام الدائم»، وفيه أعلن عن حتمية إنشاء حلف بين الشعوب، كسبيل وحيد للقضاء على شرور الحروب وويلاتها.
أعظم ما في فكر كانط ثقته المطلقة في الإنسان، ومن الواضح أن جذوره الدينية العميقة قد زرعت فيه فكر استخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها، لا لتدميرها أو تخريبها، ودعا إلى عدم الاكتراث بما يفرّق البشر، من تعصب وتمذهب.
في تأصيله لمشروع السلام الدائم، نراه يحث على تجذير الفكر السلمي في نفوس الخلق منذ الطفولة عبر التربية الأخلاقية، ذلك أن السلام بالنسبة إليه فكرة أخلاقية قبل أن يكون برامج سياسية، لا سيما أن الأخلاق تعمل على تكوين العقل الراشد المستنير.
في سطور مؤلفه الذي بات مرجعاً أممياً للساعين إلى بناء ملكوت السلام على الأرض، نجد أن السلام عنده هو بمثابة المظلة الوحيدة التي تخلق رابط أعظم مشترك لسياسة كونية تستنقذ البشرية من وهدة الصراعات ومآسي الحروب، وهو أمر لا يتعلق بحضارة بذاتها أو أمة بعينها، بل هو دعوة عالمية لكل البشرية من غير تخصيص أو تمييز، ومن دون أي محاصصة قائمة على لون أو عرق أو دين.
حلم كانط في زمانه بمجتمع متكامل قائم على سلام دائم بين الشعوب، وربما كانت الأوجاع والآلام التي عاشتها أوروبا في تلك الأوقات، هي السبب الرئيسي والمباشر في طرحه الفلسفي هذا، والذي صدر في أوقات عصيبة كانت الثورة الفرنسية تحديداً تعصف فيها بالكثير من الثوابت الأوروبية.
الغوص في عمق مشروع «السلام الدائم» لكانط، يجعلنا نتساءل: «هل يمكن بالفعل وعند لحظة زمنية بعينها من تاريخ الإنسانية أن يصبح انتهاء الحرب أمراً حقيقياً واقعياً، وليس حلماً ميتافيزيقياً مخملياً، لا نجد صداه إلا في صفحات المدينة الفاضلة للفارابي ودانتي وليس أكثر؟
الجواب واسع وعميق بدوره، بحسب صفحات مشروع كانط، غير أنه ومن دون اختصار يمكننا التوقف عند بعض المفاصل الجوهرية التي يؤكد بكونها دوافع في طريق الحروب، وليست كوابح.
على سبيل المثال، يرى أن الحروب تنشأ من عند معاهدات السلام نفسها إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة حرب من جديد، فتلك النية المكتومة تجعل من المعاهدات هدنة لا أكثر.
ذهب كانط كذلك في طريق رفض فكرة السطوة الغاشمة القائمة على القوة المسلحة الخشنة، فقد اعتبر أن أي دولة مستقلة، صغيرة كانت أو كبيرة، لا يجوز أن تملكها دولة أخرى بطريق الميراث أو الشراء، ولا حتى الهبة، ناهيك عن الحرب المباشرة، فالدولة مثل الشخص الذي له وحده حق التصرف في نفسه.
وفي حال حصلت حرب ما، فإنه وبحسب منطلقاته، لا يسمح لأي دولة أن ترتكب أعمالاً عدائية كالقتل والتسميم ونقض شروط الاستسلام والتحريض على الخيانة؛ لأن ذلك في حال عودة السلام، يؤدي إلى غياب الثقة المتبادلة بين الدولتين.
يكاد الناظر إلى الأزمنة التي خرج فيها، إيمانويل كانط، على العالم بمشروعه الفكري هذا، أن يوقن بأن هناك تشابهاً كبيراً بينها وبين حاضرات أيامنا، حيث الحروب الإقليمية تشتعل وتنتقل من بقعة جغرافية بعينها، إلى رقعة مجاورة، ومن قارة إلى أخرى. ومن غير تهويل يبدو العالم مرتجفاً في الأيام الأخيرة، وبخاصة بعد أن استهل قيصر روسيا، ولايته الجديدة، بالإعداد لمناورات نووية، وإن بأسلحة غير استراتيجية اليوم، وفيما الغد لا أحد يمتلك الضمان بألا تغادر الصواريخ الاستراتيجية صوامعها؛ ما يعني أن سلام الكوكب الأزرق برمته قد بات في مرمى الخطر بالعين المجردة ومن غير منظار.
من أنفع وأرفع ما يخرج به القارئ لكتاب «مشروع السلام الدائم» استيضاح العلاقة بين الديمقراطية والسلام، فلا يصح التعويل على نشر الديمقراطيات في مناطق تعرف الحروب وعدم الاستقرار.
يعني ذلك أن طروحات الديمقراطية الغنّاء، التي نادت بها قوى كبرى في العقدين الماضيين، تبقى غير ذات جدوى؛ فالسلام سابق للديمقراطية وليس العكس، ومن هنا تعلو صيحة كانط: «إذا كنا نريد تكريس القيم الديمقراطية، فإن السلام هو المدخل الصحيح والمريح لها، فالديمقراطية السامية لا تقوم إلا في ظل سلام عالمي؛ لأن انتفاء وجود السلام، يعني القضاء المبرم على فرص ولادة الديمقراطية، وحال الإصرار على توليدها عنوة، سيجد العالم (سقطاً) بين ذراعيه، لن تُكتب له الحياة ولو ساعة واحدة».
في خطته للسلام العالمي، لم يظهر كانط كمواطن «بروسي»، بل كعالمي، يعلي من شأن العلائق الويستفالية بين الدول عبر الحوار وتفعيله، والجوار ومقتضياته، والحرية ومفاعيلها الخلاقة، وإرادة الشعوب وأهميتها.
هل هذا هو الوقت القيّم الذي يحتاج العالم فيه إلى السعي وراء نموذج كانط من جديد، قبل أن تطبق عقارب الساعة على الحادية عشرة من زمن البشرية؟