حكمًا لم تعرف الولايات المتحدة الأميركيّة انتخابات رئاسيّة مأزومة، كمثل انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، والتي يمكن أن تتعرض فيها وحدة البلاد واستقرارها في الداخل إلى قلاقل واضطرابات غير مسبوقة.
عدّة أسئلة تواجهنا في بداية هذه السطور، لعل أهمها: "هل هذه الانتخابات هامّة للأميركيّين فحسب؟".
بالقطع، إنها تمثل أهمية فائقة للعالم برُمّته؛ ذلك أنه مهما يقال عن تراجع الوزن النسبي للولايات المتحدة الأميركية حول العالم، فلا تزال تمثل الكتلة الوازنة على معظم إن لم يكن كافة الأصعدة، وعبر المحاور الاستراتيجية الأربعة في الكرة الأرضية.
يحاجج البعض بأن أميركا قد شهدت أزمة رئاسيّة في أوائل السبعينات، كان محورها فضيحة ووترجيت في زمن الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون، وأنها لم تكن أقلّ شأنًا من الصراع الجاري الآن في داخل أميركا بين الحزبَيْن الكبيرَيْن، الجمهوريّ والديمقراطيّ.
غير أن الحقيقة هي أن إشكاليّة نيكسون قد تمّ الخلاص منها سريعًا، وبأقلّ خسائر ممكنة، طالت الرجل نفسه وحزبه الجمهوري، لكنّها لم تنسحب على المجتمع الأميركيّ، ذاك الذي يتعمق في الشقاقات والافتراقات بشكل مخيف في هذه الآونة.
يمكن القول بداية إنّ نيكسون لم يتعرض لمحاكمة، ولم تصدر في شأنه إدانة ما، فقد فَضَّلَ الاستقالة، وكان ضامنًا للعفو من نائبه جيرالد فورد الذي أصبح رئيسًا وأكمل ولايته الثانية، وإن كان هذا العفو قد كَلَّفه فرصةَ انتخابه كرئيس.
تبدو أميركا اليوم في مشهد مغاير، فهي أمام رئيس سابق ومرشَّح حالي وافر الحظّ في الفوز برئاسة قادمة، وفي الوقت عينه متّهم ومُدان في واحدة من عِدّة محاكمات، فلا تزال هناك واحدة كبيرة وخطيرة تنتظره في جورجيا.
آيّة صورة أميركية رئاسية مرتبكة تبدو داخليًّا أوّل الأمر؟
أبعاد الأزمة لدى الحزب الجمهوريّ واسعة ومثيرة، سِيّما في ضوء تأكيد الحزب على أنّه سيرشّح ترامب رسميًّا للمنصب الكبير، بعد أيام قليلة من الحادي عشر من يوليو تموز المقبل، أي موعد نطق القاضي خوان ميرشان على ترامب في محكمة نيويورك.
يعرف الجميعُ هناك أنَّ حُكمًا ما ينتظر ترامب، سواء بالسجن لفترة لا تزيد عن أربع سنوات، أو بالغرامة الماليّة، وقد تكون هائلة، وربّما بقضاء أوقات في خدمة المجتمع، وقد نرى مزيجًا من هذه كلّها معًا.
هنا نحن أمام سؤال مهمّ وجذريّ: "لماذا يُصِرّ الحزب الجمهوريّ على ترشيح ترامب رغم إدانته؟
المؤكّد أنّ إحساسًا ما ينتاب قواعد الحزب الجمهوريّ تجاه ترامب، يميل في غالب الأمر إلى القطع بأنّ المحاكمة سياسية وليس قضائية، وربّما هذا هو أسوأ ما في المشهد الأميركي اليوم.
رويدًا رويدًا تنهار الثقة المدنية في النظام القضائي الأميركيّ، والذي كان ولا يزال حتى وقت قريب، دُرّة التاج في الديمقراطية الأميركيّة، غير أن يقين البعض بأن ترامب يُحاكَم سياسيًّا وليس جنائيًّا، أمر ستكون له تبعات هائلة ومخيفة في المدى الزمنيّ القريب المنظور.... هل من دليل؟
الشاهد أن الملايين من أتباع ترامب، تَسَرَّبَ إليهم الشكُّ بعد قرار الاثني عشر محلفًا وبالإجماع بإدانة ترامب، وبالاتهامات الأربع والثلاثين الموجّهة إليه.
لم يتوقَّف الكثيرون أمام جزئية قد تكون صادقة، وهي أن الادّعاء الأميركيّ، قد أعَدَّ قضية قوية صلبة تجاه ترامب، وهذا هو السبب الرئيس في الإجماع.
تبدو مرحلة الشكّ، وفقدان الثقة بين الأميركيّين وبعضهم بعضا، جمهوريّين وديمقراطيّين، تنعكس جذريًّا على النظر إلى بقيّة مؤسّسات الدولة، وفي مقدّمها المؤسسة القضائيّة.
هل للديمقراطِيّين بدورهم أن تتوارد على أذهانهم شكوك مقابلة في الجمهوريّين؟
ذلك كذلك قولاً وفعلاً، وعلى غير المصدق أن يتابع الإجراءات التي تمضي سريعًا في مجلس النواب، بهدف إقرار قوانين تسمح بنقل محاكمة ترامب من نيويورك إلى فلوريدا على سبيل المثال، وبحيث لا يظلّ تحت طائلة ولاية هواها ديمقراطيٌّ، وقاض تبرع ذات مرّة لجو بايدن، حتى ولو كان مبلغ الدعم زهيدًا ولا يتجاوز المائة وستين دولارًا فقط لا غير.
ما هو الهدف الماورائي من توجّه الجمهوريّين الذين يسيطرون على الغرفة الأدنى في الكونغرس الأميركيّ، إلى إقرار مثل هذا التشريع المثير، والذي ومن دون أدنى شكّ، يدفع الديمقراطيّين إلى أقصى نقطة ممكنة في التصَدِّي والتحدّي لعودة ترامب مرة جديدة إلى البيت الأبيض؟
القصة مثيرة حقًّا، وهي تكاد تقطع بأنّ هناك شعورًا عامًّا بفوز ترامب فوزًا ساحقًا ومؤكَّدًا، غير أن حكم إدانة محكمة نيويورك سيظلّ يلاحقه وربما أحكامًا أخرى قادمة في الطريق.
هنا ومن خلال تحويل القضايا إلى محاكم فيدراليّة، يمكن لترامب حال وصوله للرئاسة أن يعفو عن نفسه، بخلاف قضايا الدولة التي لا يمكنها فيها ذلك، طبقا للمادّة الثانية من القسم الثاني من الدستور الأميركيّ.
هل يعني ذلك أن الجمهوريين وبأكملهم داعمون لترامب مرة وإلى الأبد؟
الجواب غير واضح حتى الساعة، ففي حين يُخلِص له اليمينِيّون المُتشدِّدُون ويمين الوسط، فإن هناك شريحة كبيرة من الجمهوريين المحافظين التقليديّين، قد يرون أن في المشهد إهانة كبرى للحزب ولمقام الرئاسة، أن يضحي رجلاً مدانًا بجرائم عدة، رئيسًا جمهوريًّا للبلاد.
لكن في المقابل، يمكننا أن نرى تيّارًا واسعًا في ولايات متأرجحة عدّة، مثل أريزونا، يقطع أصحابه بأنه ولو كان ترامب في السجن ووراء القضبان فإنّهم سوف يؤيّدونه.
ماذا عن الرئيس بايدن، المرشح الحالي للحزب الديمقراطي، وهل ترشّحه يعيق استقرار البلاد والعباد بدوره؟
هناك ولا شكّ مخاوف جذريّة تنتاب الأميركيّين بشأن القدرات الصحية والإمكانات الذهنية لبايدن، الأمر الذي ناقشته بتعمق واسع صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، حيث الجميع يتساءل: "كيف يمكن للرجل أن يبقى في البيت الأبيض لأربع سنوات أخرى، يدير من خلالها أزمات عالمية متفاقمة".
قبل أيام وفي تصريح مثير، بل ومخيف، قال بايدن: إنّنا سنُرْجِع روسيا إلى القرن التاسع عشر؟
للعام الثالث تمضي العقوبات على روسيا بسبب العمليّة العسكرية في أوكرانيا، وللسنة العاشرة تحلّ العقوبات فوق رأس بوتين بعد ضَمّ شبه جزيرة القرم.
غير أنّه رغم كل هذا وذاك، يتقدم الاقتصاد الروسيّ بخطّة واسعة وثابتة، فهل يعني تصريح بايدن بأن واشنطن قد عقدت العزم على الدخول في مواجهة نوويّة مع دولة لديها من الرؤوس النوويّة ما يكفي لإبادة كلٍّ من على سطح الكوكب الأزرق ستّ مرّات على الأقل؟
يتحَرَّق الجميع، أميركيًّا وأمميًّا ليوم الثامن والعشرين من شهر يونيو/ حزيران الجاري، موعد المناظرة التلفزيونية الأولى بين ترامب وبايدن، لمشاهدة ماذا سيكون من أمر رجلين، تجاوزتهما معطيات كثيرة، العمر والصحة، النزاهة والحيادية، وهما يسعيان للمنافسة على حكم الدولة التي تعد وحتى الساعة مالئة الدنيا وشاغلة الناس قولاً وفعلاً.
هل أميركا في انتظار مفاجآت أشدّ وقعًا، وربّما هَوْلاً في الشهرين القادمَيْن؟
الليالي الأميركية دائمًا وأبدًا حُبْلى بالمفاجآت. دعونا ننتظرْ ونَرَ.