بقلم - إميل أمين
في كلمته الختامية للاجتماع السنوي الثامن عشر لمنتدى فالداي، بمدينة سوتشي الروسية، قبل بضعة أيام، بدا كأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح ومعالم لنظام عالمي جديد، هكذا تصور، وربما معه بعض من الحق، حتى ولو أنكر عليه البعض الآخر ذلك، فما جرى منذ ثلاثة عقود، وإثر سقوط الاتحاد السوفياتي، غير الأوضاع وبدّل الطباع، وخلال تلك الفترة شهد العالم تغيرات جذرية، ربما في مقدمتها ومن أهمها، نهاية زمن القطبية الثنائية، وظهور عالم الأقطاب المتعددة.
يرى سيد الكرملين أن الإنسانية دخلت في عهد جديد، وقد أخذ الناس يبحثون عن توازن جديد وأساس مغاير للنظام العالمي.
والشاهد أنه حال المقاربة بين اللغة السياسية الذكية والعقلانية التي استخدمها بوتين في كلمته، وتصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن الأخيرة، المندفعة في اتجاه إشعال العالم بالتدخل في تايوان وبالضد من الصين، يخلص المرء إلى أن «الفائزين في أوليمبوس»، على حد وصف القيصر الروسي، قد بدأت الأرض تنزلق من تحت أقدامهم.
استحضر بوتين لغة درامية قديمة من عند جبال الأوليمب الإغريقية، هناك حيث جرت الصراعات بين الآلهة الاثني عشر العظام، وألقى بظلال الاستعارة على واقع حال الأزمات التي تحيط بالعم سام في بداية الأمر، من جراء رؤيته الانفرادية بمقدرات العالم، والمآلات التي وصل إليها الوضع الدولي، وعلى رأسه حالة المناخ، حيث التغيرات التي تشعل الحرائق وتطلق الفيضانات.
عبر مفرداته التي يبدو أنه تم اختيارها بعناية، وفي غالب الأمر لمس العارفون ببواطن عقل بوتين، تأثيرات رجل فيلسوف بعقل وقدرات صديقه ألكسندر دوغين، ربما كانت وراءها، فعنده أن سكان الدول النامية يفقدون الأمل في المستقبل، ما يؤدي إلى زيادة الهجرة، وهي إشكالية يمكن للمرء أن يتفهمها بعمق حال وضع ذلك التصريح بجانب ما أشار إليه رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، من أن لديه شكوكاً عميقة في توفير العظماء السبعة، المائة مليار دولار المتفق عليها من أجل مساعدة دول العالم النامي وفقراء المسكونة، لمواجهة آثار الدمار الإيكولوجي الذي تسبب فيه الكبار المتناحرون على حلب ضرع الأرض، وقد فعلوا ذلك منذ زمن الثورة الصناعية وحتى الساعة.
لفت بوتين الانتباه إلى الخلل التكتوني الذي يجتاح العالم، وقد جاءت جائحة «كوفيد - 19» المستجد لتعمق هذا الاختلال، فقد كان من المفروض أن توحد البشر، وتجعل من الناس أمة واحدة، غير أن ذلك لم يحدث، وعوضاً عن التئام شمل الإنسانية وتعاضدها، رأينا صحوة للقوميات، وتصاعداً للشوفينيات، بل إغلاقات للحدود بين دول الاتحاد الأوروبي في بدايات الأزمة، وسيادة مبدأ «أنا ومن بعدي الطوفان».
هل بدأت الهيمنة الغربية تتراجع أمام المنظومة المتعددة؟ هذا ما يقره رجل الكرملين القوي، الذي يراه البعض النسخة الحديثة من بطرس الأكبر، حيث يميل إلى اعتبار هذا التراجع الغربي أمراً جديداً، وربما جيداً في النظام العالمي.
يمكن للمرء أن يتفق أو يفترق في تقييمه لسنوات حكم القيصر بوتين، غير أن أحداً لا يستطيع أن ينكر دوره المحوري في إعادة ملامح الكرامة الروسية التي استبيحت بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي، وبعد تفخيخه من الداخل، إنْ بطريق مباشرة أو بمسلك غير مباشر، على يد صاحب البريسترويكا والغلاسنوست، وفي كل الأحوال يبقى رجل الـ«كي جي بي»، الشهير على مبدئه... روسيا لن تقبل أن يعلمها أحد، ولا تنوي أن تُعلم أحداً... الأمر الذي اعتبر رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لخطابه الذي ألقاه في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007.
يقدم بوتين للنظام العالمي المغاير الذي يراه، رؤية تعاونية غير استعلائية، فيها يمكن أن تعيش روسيا والروس كما يريدون، مع حقهم الشامل والكامل في ذلك، وفي الوقت نفسه لا يعني ذلك بالضرورة شيطنة الآخر، بل يمكن على حد تعبيره تطوير صداقة معه والتعاون البناء، هذه هي حدود روسيا القائمة والقادمة، من غير دروس فوقية إمبريالية، والتي لن يتم التسامح معها بعد الآن كما توعد، الأمر الذي يقتضي فك شفرات الكلمات عما قريب.
الذين طالعوا عدد مجلة «الفورين أفيرز» الأميركية، التي تعبر عن أهم مركز أبحاث يرسم ملامح ومعالم السياسة الخارجية الأميركية، مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، ربما هالهم العنوان، وفيه أن «روسيا ليست قوة عظمى في الشرق الأوسط»، ولسان حال الكاتب فريدريك ويري، يكاد ينطق، أنها ليست قوة عظمى في أي مكان.
لكن الواقع يشير إلى أن أدوات عصرانية من القوة يتلاعب بها القيصر، من عند الصواريخ المجنحة، إلى سفنه التي تقترب من المحيط الهادي، وصولاً إلى سلاح الطاقة في مواجهة أوروبا.
الخلاصة؛ النظام العالمي الجديد بات القيصر فيه أحد الصاعدين الجالسين على قمة الأوليمبوس.